اختر لنفسك

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 23 فبراير 2017 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

أدخل مفهوم الـ«super market» تطورا مهما فى الثقافة الاستهلاكية للشعوب، ليس فقط من حيث إن هذه النوعية الجديدة من المتاجر أصبحت أكبر وأضخم بكثير من حوانيت البقالة التقليدية وبوتيكات بيع الملابس مما فتح مجالا واسعا للاختيار أمام المستهلك، لكن أيضا لأن هذه المحلات الضخمة جعلت المستهلك يقوم على خدمة نفسه ويستغنى عن خدمات البائع. كانت سياسة المعروضات المحدودة والمساحات الصغيرة تفرض علاقة مباشرة بين البائع والمستهلك، وكانت نظرة واحدة من المستهلك إلى ثلاجة العرض أو ڤاترينة البوتيك تكفى منه كى يطلب من البائع زجاجة من اللبن المبستر أو يسأل عن المقاس المناسب له من الثوب أو السروال. الآن اختلف الوضع بالكلية فصار الجبن أجبانا منها كامل الدسم ونصف الدسم وخالى الدسم وصار منه السائل والبودرة والمحلى والمستورد، كما تجاوب مصممو الأزياء مع الاختلافات الطفيفة بين المقاييس الجسدية للزبائن فتوسطت «نصف النمرة» ما بين مقاس وآخر فى الملابس والأحذية.
***
تعددت طوابق المحل الواحد وتنوعت أنشطته على نحو أفقد التخصص أى منطق فإذا بالصيدلية تتاجر فى لعب الأطفال والملابس وأدوات الزينة ربما أكثر حتى مما تبيع الأدوية والأجهزة الطبية، وإذا «بالسوبرماركت» يتاجر فى الأدوات المنزلية والأجهزة الكهربائية والمفروشات وكروت شحن الموبايل والصحف والمجلات وهكذا تحول بالتدريج «السوبرماركت» إلى «هايبر ماركت» أى إلى متجر عملاق يتعامل فى كل شىء وينافس الفاكهى والخباز والجزار والخياط. لم تعد نظرة الطائر تكفى أبدا ليحدد المستهلك هدفه بدقة، هو يحتاج أن يتفحص مكونات المنتج وتاريخ الإنتاج وشروط الحفظ، ويحتاج أن يتعرف على بلد المنشأ ليس فقط لتحديد جودة المنتج لكن أيضا لأن لكل بلد مقاييسه الخاصة فالصين غير ألمانيا وتركيا ليست إندونيسيا، وهذا كله يتطلب وقتا وجهدا بما يجعل من المستحيل أن يتفرغ البائع لمصاحبة المستهلك حتى يتجول براحته ويفاضل ويقرر. الأمر أيضا ارتبط برغبة أصحاب المتاجر فى توفير العمالة وأيضا النفقات، وهكذا توسعت مسئولية الزبون وانتقلت من التدقيق بنفسه فى جودة المنتج إلى تعبئة مشترواته وأحيانا إلى دفع قيمتها إلكترونيا، تقلصت علاقة البائع بالمشترى وصرنا لا نرتاح كثيرا لبعض المتاجر التى مازال البائع يطاردنا فيها وهو يسألنا مبتسما «أى خدمة»، بل اعتبرنا هذه الخدمة تمثل قيدا على حريتنا.
***
كان الشارع كالعادة مزدحما بكل أنواع المركبات، وكان المارة يقطعون الطريق ويوقفون حركة المرور بعشوائية كما هى العادة أيضا، لاحت منى التفاتة لحانوت صغير غطت على اسمه لوحة معدنية مكتوب عليها «اختر لنفسك». من باب الفضول ليس إلا قررت أن أختبر معنى جملة «اختر لنفسك» فلا كنت أعلم طبيعة نشاط المتجر من قبل ولا كنت أحتاج شيئا محددا لكنى دلفت إلى الداخل فى محاولة للفهم. كان الضوء خافتا لكنه كان كافيا لتمييز بعض الحلى المعدنية المتناثرة على الأرفف الخشبية، المصنوعات يدوية وبسيطة وقليلة التنوع، وفِى المجمل لا شىء مبهرا ولا مثيرا للانتباه فى المحل إلا هذه الوريقات التى تتدلى من الحلى وعليها العبارة نفسها المكتوبة على باب المحل «اختر لنفسك»، تعجبت من هذا الإلحاح المبالغ فيه على حرية الاختيار وكأن الزبون فى وارد التنازل عنها ــ وبشكل عام لم أتآلف مع المكان. كان البائع وهو شاب فى العشرينيات منشغلا فى الموبايل فلم يلتفت لدخولى أو لعله لم يشأ أن يلتفت، وأمام مرآة صغيرة وقفت صبية بشوشة الوجه تتأمل سلسلة مدلاة من عنقها وتقارنها بأخرى فى يدها وتبدو حائرة فى اتخاذ القرار، وحين طال بها الوقت قليلا طلبت الصبية رأى البائع بصوت مسموع ففاجأها بهز رأسه بالنفى وأمسك بخاتم صغير مشيرا إلى الورقة إياها المعلقة به.
***
نمُر جميعا بلحظات نحتاج فيها عينا أخرى ورأيا آخر، وفى المتاجر الكبرى حيث تكون مساعدة البائع فى حدها الأدنى كثيرا ما نرى زبونة تسأل أخرى عن رأيها فى لون الثوب أو تفصيله وحتى مقاسه رغم أنها الأدرى به، أو تسألها عما إذا كانت قد جربت منتجا معينا من قبل وكيف وجدته، لكن هذا يحدث فى المتاجر الكبرى أما هذا المحل الصغير حيث البائع متاح ولا يوجد تزاحم والزبون يسأل فلم الامتناع عن المساعدة؟ بعد أن تأقلمتُ قليلا مع الموقف الغريب بدا لى أن الشاب العشرينى يريد من زبائنه أن يتحملوا مسئولية اختياراتهم وكأنه يقول لهم: تتبرمون حين يلاحقكم البائع للمساعدة فى بعض المتاجر وتعتبرون خدمته لكم تدخلا منه فيما لا يعنيه فانعموا إذن بحريتكم كاملة واختاروا ما يحلو لكم وليس ما يروق لى.

***
أقول الحق أعجبنى منطق البائع على غرابته ــ وربما أيضا على عدم تحليه باللياقة المطلوبة، أعجبنى لأنه كان كاشفا لحقيقة أننا لا نمارس حرية الاختيار فى أبسط الأمور بما فيها أمورنا الشخصية، أننا ندافع عن خصوصيتنا ونرفض أن «نلبس ما يعجب الناس» ثم إذا بِنَا نستدعى الناس إلى دائرتنا الضيقة ونلبس ما يعجبهم وننسب اختياراتهم إلى أنفسنا، وأننا اعتدنا على المتاجر الكبيرة بنظامها وقواعدها لكننا من وقت لآخر نشعر بالحنين لسلوك الحوانيت الصغيرة حيث البائع شريك فى صنع القرار. أشك أننى سأقصد مستقبلا هذا المحل مرة أخرى فليس به فى الواقع لمثلى ما يُشترى لكننى فى قرارة نفسى أحب أن أدرس تأثير تجربة «اختر لنفسك» على كل من تعرضوا لها وما إذا كانوا قد التقطوا الرسالة التى بعث لهم بها الحانوت وطبقوها لاحقا فى مشترواتهم أم أنهم اعتبروا الشاب العشرينى مجرد بائع كسول لا يحرص على أكل عيشه.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved