الصراع على سوريا.. مرحلة جديدة ومآل مجهول

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 23 فبراير 2020 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

يزداد التساؤل حول نهاية الصراع فى سوريا.. هذا التزايد له اليوم مغزاه أكثر من أيّ يومٍ مضى. ذلك أنّ المعركة الحاسمة حول إدلب قد انطلقت وعرفت قمّة تصاعدها.
غدت منطقة إدلب الأكثر حساسيّة فى الصراع بعد أنّ تمّ تجميع جميع مقاتلى «المعارضة المسلّحة» فيها ومعهم جماهير المواطنين الذين نزحوا خشية بطش السلطة. كما غلبت الغرابة ذروتها عندما أضحت المنطقة تحت سيطرة تنظيم «فتح الشام»، المدان دوليا بالتطرّف والإرهاب. وبدا واضحا أنّه لا «حلّ سياسيّا» لتلك المنطقة منذ أن بدأت المساعدات الدوليّة التى تُمكِّن مئات آلاف النازحين من العيش تتضاءل رويدا وريدا إلى حدِّها الأدنى.
بالتوازى غدا التساؤل حول نهايات الصراع فى سوريا ملحّا أكثر اليوم لأنّ هذا الصراع أخذ بعدا إقليميّا ودوليّا، أكثر ممّا هو صراعٌ بالوكالة عبر السوريين، ومن خلال مواجهات داميّة بين فصائل مسلّحة من جهة وجيش سوريّ وفصائل «رديفة» له من جهة أخرى. هناك اليوم تدخّل عسكريّ تركيّ صريح، بجنود ومدرّعات، بل وتدخّل أكثر وضوحا من ذلك الذى جرى فى مناطق «قسد» فى الشمال الشرقى عبر فصائل سوريّة مسلّحة مدعومة فقط بالمدفعيّة والطيران. واليوم يتواجه فى الصراع فى إدلب الطيران الروسيّ مباشرةً مع المدرّعات التركيّة، فى حين تشجِّع الولايات المتحدة إعلاميا مواجهة عسكريّة صريحة بين الطرفين بغية توريطهما معا. هكذا لم يعُد الصراع فى سوريا وعليها بالوكالة وإنّما أضحى صراعا بالمباشر لا بدّ له أن يجد حلاًّ فى مستقبلٍ قريب.
***
لم تكن آفاق نهاية الصراع بادية بوضوح فى المراحل السابقة، خاصّة مع حرص الدول اللاعبة فى الملفّ السورى فى البداية على تفتيت المعارضة السياسيّة السوريّة، ومن ثمّ حرصها على تفتيت «المعارضة» المسلّحة إلى فصائل متناحرة، وكذلك على دفع مقاتلين متطرّفين جهاديين من كلّ حدبٍ وصوب للعبث فى الأرض السورية. هذا بحيث لا يُمكن توقّع أن يقبل المجتمع الدولى سيطرة هؤلاء على مقاليد الدولة السوريّة كاملةً، لا بصيغة «داعش» ولا حتّى «النصرة» المرتبطة بتنظيم القاعدة، كى تصبح البلاد مصدر تهديد عالميّ كما كانت أفغانستان فى بعض الأزمنة. وكانت الأموال والمعونات والأسلحة والمقاتلين تتدفّق على كل جهات الصراع، كى تبقى سوريا فى صراعٍ داخليّ محتدم ودائم لا نهاية له.
واليوم تمّ إغلاق الأفق على كلّ الجهات السوريّة. وتمّ دفع لبنان الذى كان يُشكِّل الرئة الأخيرة التى يتنفّس عبرها السوريّون اقتصاديا إلى إفلاس كان محتوما منذ زمنٍ طويل وانفجر سعر صرف الليرة السورية وفُقِدَت المواد الأساسيّة من الأسواق بشكلٍ أسوأ من أحلك فترات الصراع السوريّ حين كانت داعش على بعد كيلومترات معدودة من معظم المدن الكبرى. وكما فى نهاية الحرب الأهليّة اللبنانيّة فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، يأتى انفجار سعر الصرف والارتفاع الجنونيّ للأسعار ليُنذِر بقرب نهايات الصراع.
إنّ روسيا منخرطة اليوم أيضا ومباشرةً فى الصراع السوريّ وتهيمِن على مقادير المناطق الخاضعة ــ اسميّا ــ للسلطة القائمة. وكذلك تهيمن الولايات المتحدة على مناطق ما يسمّى بالإدارة الذاتية. ورغم إعلان انسحابها العسكريّ منذ فترة بقيت تعزّز قواعدها العسكريّة وأقرّت قانون قيصر الذى يحرِم سوريا من أيّة تجارة خارجيّة ويضع مستقبل سوريا، كلّ سوريا، بيد الولايات المتحدة مهما كان المنتصر عسكريّا أو سياسيّا. فهذا القانون يمنع حتّى الاتحاد الأوروبى من القيام بأيّة خطوة تجاه سوريا دون الضوء الأخضر للولايات المتحدة. وغالبا ما تشهد مناطق سوريّة مناوشات بين دوريّات روسيّة وأمريكيّة دون تصّور أن تصِل إلى صدامٍ مباشر.
هكذا أضحت تركيا اليوم منخرطة مباشرةً عبر جيشها فى الصراع السوريّ وتفقد جنودا لابدّ للإدارة التركيّة أن تبرّر مقتلهم لهدفٍ ما. كما تسيطر على مناطق فى سوريا ترفع علمها إلى جانب علمٍ سوريّ وترتكز على إدارة مؤسساتها الحكوميّة. وهنا أيضا لا يُمكن تصوّر، مهما كان عنف التصريحات الرسميّة، أن تصل الأمور إلى مواجهة عسكريّة شاملة أكثر بين تركيا وروسيا. أمّا تدخّل إيران فقد بدأ يضعُف مع تواتر الضربات الإسرائيليّة على قواعدها فى سوريا، وخاصّة بعد استهداف قاسم سليمانيّ فى العراق. ما يعنى أنّ المرحلة القادمة سيقرّرها لاعبون ثلاثة أساسيّون لا يُمكن لانخراطهم العسكريّ أن يبقى مستمرّا أو أن يتفاقم بشكلٍ أكبر.
***
من الممكن أن يتقاسم اللاعبون الأساسيّون الأرض ويتقاسموا أيضا ولاءات السوريين انطلاقا من الكراهيّة التى تمّت تغذيتها بين الأطراف السوريّة. تقتطع تركيا شريطا فى سوريا على طول حدودها معها وتجعله «موطنا» للنازحين واللاجئين وتخلق له وضعا سياسيّا يشابه قبرص التركيّة. وتهيمن الولايات المتحدة على «إدارة ذاتيّة» تحوى الموارد النفطيّة والمائيّة الأساسيّة للبلاد. مقابل أن تهيمن روسيا على ما بقى من سوريا. ومن الممكن أن يتمّ وضع كلّ هذا ضمن صيغة دستوريّة فيدراليّة هشّة.
إلاّ أنّ هذا «الحلّ» له إشكاليّاته الكبرى. إذ سيضع أغلب مناطق التواجد الاجتماعى للأكراد السوريين، خارج مدن دمشق وحلب، تحت الهيمنة التركيّة المباشرة. فى حين تسيطر «قسد» على مناطق عشائر عربيّة. كما أنّه سيفرض على أغلب من تهجّر من مناطق حمص وحلب وغيرها سيقطنون فى مناطق بعيدة عن المدن والقرى التى نشأت فيها ذاكرتهم الجمعيّة المتأصّلة فى التاريخ. كما سيدفع مناصريّ الإسلام السياسيّ السوريين للعيش فى بوتقة تركيّة تبقى علمانيّة الدولة لديها ركنا أساسيّا. كما أنّه لا يُمكن أن تبقى مناطق سيطرة السلطة السوريّة والتى يعيش فيها أغلب السكّان حصارا اقتصاديا وعزلةً عن لبنان والأردن والعراق وتحت ضغط القمع العبثيّ إلى ما لا نهاية. وعلى الأغلب ألاّ يُكتَب لحلٍّ كهذا الاستمرار حتّى لو وجد له طريقا فى مرحلةٍ ما وتمّ التعبير عنه صراحة فى «صفقة عصر».
ومن سخرية القدر أن «الحلّ» فى مقدّرات سوريا يرتبط اليوم بالحلّ حول مقدّرات ليبيا كما فى الأيام الأولى للصراع السوريّ حيث تمّ إسقاط منظور تطوّرات ليبيا وعسكرة الصراع فيها والتدّخلات الخارجيّة على الانتفاضة السوريّة وأخذها إلى الصراع الذى نعرفه اليوم.
يعى السوريّون اليوم جيّدا العبث الذى قادتهم إليه السلطة القائمة من جهة والدول التى أرادت اللعب بمصيرهم من جهة أخرى. وباتوا لا يصدّقون أحدا، لا الإعلام ولا الدول. ويشهدون بأعينهم درس مصير الفلسطينيين بعد أن تمّ تهجيرهم من أرضهم. وربّما باتوا يعرفون أيضا جيّدا أنّ التمسّك بالأرض مهما كانت الآلام يبقى هو الأساس لأيّ حلّ للصراع الذى تمّ زجّهم فيه.

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved