كيف تتحول العشائر إلى دولة والعكس؟

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: السبت 23 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

فى عام 508 ق.م سقط حكم الديكتاتورية فى أثينا عاصمة اليونان القديمة، وكانت أثينا مقسمة إلى عشر مناطق وكل منطقة تحكمها عشيرة بعينها تربطها هوية وتوجه واحد وثقافة وعادات وتقاليد خاصة بها وبمجرد سقوط الديكتاتور الذى كان يحكم البلاد من خلال رؤساء العشائر كل فى منطقته قام كليستين الذى أسقط الديكتاتور ــ عشية انهيار الطغيان ــ بتقسيم جغرافى جديد للمدينة حرص فيه على أن يخرق الحدود القبلية، فقسم أثينا إلى ثلاث مناطق تتعارض تماما مع التقسيم القبلى القديم، وجعل لكل منطقة من الثلاثة إقليما ينحو نحو المدينة (مدنى) وآخر ريفى وثالث بحرى وهكذا استطاع أن يخلط الجماعات أو العشائر أو القبائل العشر معا فى تقسيم مختلف عن العنصرية القبلية وبهذا حطم كليستين علاقات رؤساء القبائل والتى كانت تقوم على المصلحة بين بعضهم البعض وعلاقاتهم بالديكتاتور، وكذلك حطم الكيان المبنى على هوية العشائر وتميز بعضهم عن البعض سواء فى القوة العسكرية أو الفكرية أو الثقافية، واستطاع أن ينهى الصراع والتنافس بين العشائر والذى كان يطغى على ولائهم للوطن حيث كان ولاء أفراد العشيرة لبعضهم البعض ولرؤسائهم وثقافتهم أكثر من ولائهم لليونان، وكان تنافسهم الدموى للوصول للحكم هو الأولوية الأولى التى يخططون لها ويعملون من أجلها بكل قواهم وإمكاناتهم.

 

 وكان مجرد وصول عشيرة للحكم تصطبغ البلاد بصبغتهم وهويتهم لا عن طريق إقناع العشائر الأخرى أو الحوار معهم فى هذا الشأن للوصول إلى توافق عام لكن بقوة السلطان والعسكر وهكذا كان التنافس يبقى تحت السطح بقدر سلطة الحاكم وسطوته وقوته ويحتدم الصراع ويخرج على السطح فى حالة ضعفه، وبالتالى كانت الدولة تنهار تحت حكم العشائر وكما هو معروف فى علم إدارة الصراع أنه عندما يكون صراع الجماعة على الهوية والسلطة والقبلية يصبح صراعا سلبيا فتتفتت البلاد ويذهب ريحها لكن عندما يكون الصراع فى خدمة أهداف تجمع الهويات المختلفة على رؤية سياسية واحدة ومصالح عامة للوطن هنا يكون الصراع إيجابيا.

 

•••

 

ولكى يحقق كليستين هذا الفكر جعل فى كل منطقة من المناطق الثلاث مجلسا شعبيا مكونا من خمسمائة شخص يختارون بالقرعة، وبالطبع هذه التجربة تطورت إلى الديمقراطيات الحديثة فالأسلوب الذى اتبع لصيانة الدولة هو وجود سلطة يتشارك فيها الجميع ويرى كل المواطنين أنفسهم فى تلك السلطة دون أن تتسيد إحدى القبائل أو العشائر على الأخرى بأى شكل من الأشكال إن وجود العشائر مستقلة فى إطار الدولة يجعل فرض سلطة الدولة لا يتحقق إلا بالقوة العسكرية وقمع إحدى العشائر التى وصلت للسلطة لباقى العشائر وقد تم هذا بعد الحرب العالمية الأولى فى الشرق الأوسط نتيجة معاهدة سايكس ــ بيكو (وزير خارجية بريطانيا ووزير خارجية فرنسا) واللذىن قسما البلاد وأعطيا كل بلد للعشيرة الأكبر مثل آل سعود فى السعودية والصباح فى الكويت وبن جاسم فى قطر...  إلخ، وهذا هو الفارق بين حكم العشائر وبين الدول مثل مصر وسوريا.. إن الأسلوب الذى أبدعه كليستين فى عام 508 ق. م جعل الدولة تقوم على أساس تفاعل كل القوى الاجتماعية الفاعلة على الأرض (العشائر) للوصول إلى أغلبية تشاركية، فتستقر الدولة دون عنف وهذا هو الفارق بين استقرار الدولة تحت حكم العسكر، أو حكم قبيلة أو عشيرة.

 

فاستقرار الدولة فى هذه الحالة يعتبر استقرارا وهميا تحت ضغط القوة والعنف والتى من المحتمل أن يأتى اليوم الذى فيه تنفجر القوى المضغوطة كما حدث فى ثورات تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا، وكان من المفروض نتيجة لهذه الثورات أن تتحقق شعاراتها المرفوعة عيش ــ حرية ــ كرامة إنسانية بوجود سلطة واحدة تبنى على تعدد السلطات، ولا تقوم هذه السلطة أو يكون لها وجود إلا بالتعدد لكن ما حدث هو العكس تماما فبعد أن كانت هذه الدول تحكم بعشيرة العسكر كل ما حدث هو قفز عشيرة دينية متشددة (لها هوية خاصة) إلى السلطة فى تونس ومصر وليبيا واستمر حكم العسكر فى اليمن ومازالت سوريا تعانى تطاحن العشيرتين، وهذا هو المأزق الحقيقى، فالديمقراطية الشكلية أو الوهمية التى تفرز عشيرة عسكرية أو دينية هى فى طبيعتها تعوق التقدم والتحديث بل تؤدى إلى مأزق شديد الخطورة، لأن العسكرية هوية العسكريين والدين هوية العشيرة الدينية ولأن الهوية العسكرية من المستحيل أن تكون هوية الدولة ككل فقد فشل هذا الخيار فى كل المحاولات سواء غربا أو شرقا وانتهى حكم العسكر إما بانقلابات عسكرية أو ثورات شعبية لذلك كان لا بد من استبعاد حكم العسكر تماما من مستقبل الإنسانية، أما العشيرة الدينية المغلقة فيمكنها أن تخرج من مأزقها التى وضعت نفسها فيه بأن تقدم تفسيرا دينيا جديدا مصلحا كما حدث فى أوروبا، حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية مسيطرة كإحدى العشائر الدينية المتشددة بهوية خاصة بها وقد ارتكبت حماقات متعددة مثل الحروب الصليبية وحرق العلماء وصكوك الغفران، لكن بعد ثورة الإصلاح أو بسببه قدمت الكنيسة تفسيرا إصلاحيا جديدا فصلت بين الكنيسة والدولة واحتوت جميع أطياف المجتمع وهذه التجربة يمكن أن تتكرر مع اختلاف الزمان والمكان والإنسان والثقافة والدين.

 

•••

 

والفرصة متاحة الآن للإخوان المسلمين أن يقدموا تصورا للحكم يبنى على تفسير تاريخى معاصر فالكنيسة فى أوروبا لم تلق بالكتاب المقدس جانبا لكنها قدمت تفسيرا معاصرا لمعان أصولية، وتجارب تاريخية سابقة لم يكتب لها النجاح فإن قبلت جماعة الإخوان مثل هذا التحدى تستطيع أن تحتوى جميع الأطياف وأن تشارك الجميع فكون عشيرة دينية مغلقة تفوز من خلال صناديق الانتخابات لا يعنى هذا إلغاء باقى العشائر وصبغ المجتمع بهويتها ــ وهذا من المستحيل ــ بل هو أكبر عامل يؤدى إلى الفشل والسقوط، فلم يعد صندوق الإنتخابات هو الدليل الوحيد على الديمقراطية، فالديمقراطية تعنى المشاركة فى السلطة ولذلك فالمصطلح العالمى الجديد هو «الديمقراطية التشاركية»، والديمقراطية التشاركية لا تعنى مجرد حزب حاكم وآخر معارض لكن تعنى مشاركة جميع الأطياف بغض النظر عن الإنتماء السياسى أو الدينى أو الجنسى أو القيمة العددية لأى فصيل، وهذه هى الديمقراطية الحقيقية.

 

 لكن أن تفوز عشيرة من خلال الصندوق ويقف رئيسها متحدثا بالقول أهلى وعشيرتى فهذا يعنى أنه تغاضى عن جميع أصوات العشائر الأخرى التى أعطت صوتها له متصورة أنها تنتخب رئيسا لكل المصريين، فتدهور الديمقراطيات جاء بحصر مفهوم الديمقراطية فى الصندوق الذى يفرز رئيسا يفرض سطوته وعشيرته بالقوة، إن التطور الطبيعى لديمقراطية أثينا هو الانتقال من الحكم العشائرى إلى الحكم المؤسسى بديمقراطية الأغلبية والأقلية ثم الانتقال إلى الحكم المؤسسى بالديمقراطية التشاركية وهو ما رأيناه بعيوننا ولمسناه بأيدينا من يوم 25 يناير إلى 11 فبراير 2011 حيث أسقطت هذه الجماعة الأيديولوجيا الدينية والعسكرية واليسارية والقومية واسقطت الفروق العرقية والجنسية والثقافية فى إبداع جماعى غير مسبوق لكن هذه الذروة لم تترجم على أرض الواقع بسبب إيقاف التطور الطبيعى للديمقراطية والسير فى الطريق العكسى، وبدلا من أن تتحول القبائل التى تتصارع على أرض مصر إلى دولة بعد سقوط حكم العسكر حدث العكس وتحولت الدولة العسكرية المتماسكة إلى عشائر وهو ما نراه اليوم فى الشارع، مما دعا كثيرون بالمجاهرة بطلب عودة العسكر.

 

•••

 

وهكذا ترى عزيزى القارئ أن الفارق بين ديمقراطيتنا هذه الأيام وديمقراطية أثينا هو: ألفان وخمسمائة عام فقط لاغير (بسيطة)... ابتسم يارجل.

 

 

 

أستاذ مقارنة الأديان

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved