التيار الدينى السائد ومشكلة الهوية

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: السبت 23 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

الاقتصادى المصرى المرموق سمير أمين، كتب مرة أن «الرأسمالية نفى للثقافة»، لم يكن يقصد الثقافة بمعنى الإنتاج الفكرى، بل بمعناها الانثروبولوجى، الذى يشمل عادات المجتمع وتقاليده، وقيمه ونظرته للحياة، مما يميز مجتمعا عن غيره. وبهذا تكاد «الثقافة» أن تكون مرادفة «للهوية». هذه الجملة تلمس فى رأيى حقيقة مهمة، وإن كان لى تحفظ بسيط عليها. فلا أظن أن الرأسمالية فى كل عصورها كانت تنفى أو تهدد الثقافة بهذا المعنى، بل كثيرا ما أفادتها وقوتها. إنما تصبح الجملة قريبة جدا من الحقيقة إذا استبدلنا بالرأسمالية «المجتمع الاستهلاكى»، وهو على أى حال من نتاج الرأسمالية ومرحلة متقدمة من مراحلها.

 

المجتمع الاستهلاكى يضر بالثقافة والهوية، إذ إنه أشبه «بوابور الزلط» الذى يسير فوق السمات الخاصة بكل أمة فيكاد يمحوها محوا، بما يشيعه من شهوة اقتناء المزيد من السلع، والجرى لتحقيق المزيد من الدخل والثروة، فيطيح فى طريقه بأى شىء يعترض هذا الهدف، من تقاليد المجتمع وقيمه مما كان يميز المجتمع عن غيره. كل شىء يجرى تطويعه، بل ويعامل بخفة واستهتار، فى سبيل المزيد من الربح أو تسويق المزيد من السلع: اللغة القومية، والتراث الموسيقى والأدبى، تاريخ الأمة وآثارها، مركز المرأة والاحترام الواجب لها، معاهد التعليم والاحترام الواجب لأساتذتها، جمال الشوارع وهدوئها، المعمار الجميل الذى يميز أمة عن غيرها.. الخ.

 

حدث كل هذا فى بلادنا وأكثر منه عندما فتحنا الأبواب أمام تيار المجتمع الاستهلاكى وبدأنا نطبق سياسة الانفتاح فى السبعينيات، وكان لابد أن يثير هذا حفيظة وقلق كل من يحمل ولاء لتراث أمته ويهمه صيانة هويتها. كان من بين هؤلاء بالطبع الكثير من المتدينين، إذ كان الدين مما تعرض لهذا التهويد باعتباره مكونا لهما من مقومات الهوية. ولكن كانت هناك مشاعر أخرى قوية، غير الشعور الدينى، تدفع إلى القلق على الهوية. كان هناك عشق اللغة العربية وتراثنا الأدبى، وعشق الموسيقى العربية التى دخلت جهازنا العصبى وكونت جزءا عزيزا من ذاكرتنا، ومختلف أنواع التعبير الأخرى عن شخصية الأمة، من الزى الذى نرتديه، إلى طريقة تأثيرنا لمنازلنا، إلى تعبيراتنا الشعبية، إلى طريقتنا فى التنكيت والسخرية مما يحدث لنا، إلى طريقتنا فى التعامل مع الناس، من أقارب وغرباء.. الخ.

 

لقد كان الدين الإسلامى مؤثرا مهما فى كل هذه السمات المكونة لهويتنا، ولكنه لم يكن المؤثر الوحيد، فقد أحل فى تكوين هذه السمات كل ما شكل شخصيتنا من تاريخ وجغرافيا ولغة، وما أقمناه (أو فرض علينا) من علاقات مع غيرنا من الأمم.. الخ. وفى هذه الأمور كلها يشترك الأقباط مع المسلمين، متأثرين ومواترين بكل ما مر على مصر من تطورات عبر تاريخها الطويل. بل ويشترك فيها أيضا بعض الأجانب ممن جاءوا إلى مصر وعشقوها وأقاموا فيها وساهموا مساهمات جليلة فى تكوين تراثها وهويتها.

 

عندما كتب جمال حمدان كتابه المهم «شخصية مصر»، لم يخطر بباله قط أن شخصية المجتمع  المصرى تنحصر فى أنه مجتمع غالبيته العظمى من المسلمين، ولا أظن أنه كان من الممكن أن يخطر بباله أن الباكستانى أو الإندونيسى المسلم أقرب إلى المسلم المصرى من القبطى، فيلخص الهوية كلها فى دين الأغلبية، ضاربا الصفح، ليس فقط عن أصحاب الديانات الأخرى، بل وعن كل ما يميز المصريين عن غيرهم من عادات وتقاليد ولغة وسمات نفسية تضافرت فى تكوينها عوامل كثيرة عبر التاريخ.

 

هناك شىء غريب إذن فى موقف كثيرين من ممثلى التيار الدينى والسلفى، المنتشر الآن فى مصر، والذى يحتل قادته قمة السلطة فيها، من ظاهرة «المجتمع الاستهلاكى». فهم يتصرفون ويتكلمون وكأن التهديد الوحيد الذى يواجه الهوية المصرية من المجتمع الاستهلاكى هو تهديده للدين الإسلامى، بينما تتعرض كل جوانب الهوية المصرية للتهديد من هذه الظاهرة، سواء تعلقت بالدين أو بجوانب الحياة الأخرى، ويتعرض الأقباط فى مصر لنفس التهديد الذى يتعرض له المسلمون، فيما يتكلمونه ويقرأونه من لغة، وما يمارسونه من عادات، ومختلف جوانب الهوية المصرية التى يشتركون فيها مع المسلمين المصريين، ينفعلون بها ويساهمون فى إنتاجها.

 

بل لقد ترتب على هذا الاختصار الغريب للهوية فى اعتناق الدين الإسلامى وممارسة شعائره إلى أن جرى اقتباس بعض العادات الجديدة على المصريين، بدعوى التمسك بالهوية الإسلامية، كاستيراد زى معين من بلاد إسلامية أخرى، وعادة إطلاق اللحى من عصور سحيقة فى تاريخ الإسلام أو مما قبل الإسلام. إذن فقد أصبح التمسك بالهوية فى نظر هؤلاء، يعنى التنقل جغرافيا وتاريخيا، من مصر إلى بلاد أخرى، ومن العصر الحالى إلى عصور قديمة، دون اعتبار للحقيقة الساطعة الآتية: وهى أن هوية المجتمع المصرى ليست هى هوية المجتمع الباكستانى أو الإندونيسى أو الخليجى، وأن هوية المجتمع المصرى الآن ليست كما كانت هويته منذ أربعة عشر قرنا، ولا يمكن أن تتوقع من المصريين أو نطالبهم بأن ينفعلوا بنفس ما ينفعل به المسلم فى المجتمع الباكستانى مثلا أو الخليجى، أو بما كان ينفعل به المسلم فى مصر أو خارجها منذ أربعة عشر قرنا.

 

ليس أقل مدعاة للدهشة والأسف، ما نراه من كثيرين من قادة وممثلى التيار الدينى والسلفى فى مصر، من أنهم وهم يؤكدون على تمسكهم بالهوية، يبدون استجابة وترحيبا مدهشين ببعض مظاهر المجتمع الاستهلاكى التى لا تمثل قيد أنملة أى سمة من سمات الهوية المصرية، بل قد تمثل تهديدا حقيقيا لبعض هذه السمات فالاستهلاك الترفى يبدو أن كثيرين منهم على استعداد للانغماس فيه، كما يبدون راضين عن انغماس أولادهم وذويهم فيه، مما يبدو غريبا على معظم المصريين، مسلمين وأقباطا، فى الحاضر وفى التاريخ، وكأن هذا الانغماس فى الترف يكفى للصفح عنه ممارسة شعائر الدين.

 

لقد حضرت بعض الأفراح التى يقيمها بعض ممثلى التيار الدينى والسلفى فى مصر، فوجدت هذا الانغماس الشديد فى الترف، وخروجا صارخا على عادات المصريين فى الاحتفال بالزواج، وكأنه يكفى لصرف النظر عن كل هذا إضافة بعض الطقوس الدينية فى الأفراح المقامة مما لم يعرفه المصريون قط لا فى الماضى البعيد أو القريب، فإذا نحن بصدد عرس لا هو بالشرقى ولا بالغربى، لا مصرى ولا أوروبى أو أمريكى، وإنما هو مسخ من هذا كله، يتصور أصحابه أنهم يستطيعون به تحقيق متطلبات الدين والدنيا فى الوقت نفسه، بينما قد يراه آخرون (وأنا منهم) متعارضا مع السلوك القويم فى الدنيا، ومتعارضا أيضا مع التفسير القويم للدين.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved