الخبز والحرية فى زمن الكورونا

محمد عصمت
محمد عصمت

آخر تحديث: الإثنين 23 مارس 2020 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

أكثر من 3 مليارات دولار دفعناهم العام الماضى لاستيراد القمح المخصص لانتاج رغيف الخبز المدعم، بعد أن قررنا بدون أى سبب واضح فى عام 2013 التوقف عن إضافة الذرة إلى القمح فى صناعة الرغيف، وهو ما كان له آثار وخيمة على ميزانيتنا المرهقة، حيث اضطررنا إلى استيراد الذرة من الخارج بعد ان ابتعد عن زراعتها الفلاح المصرى لتكلفتها العالية بعد رفع أسعار الاسمدة الكيماوىة الذى تبيعها الحكومة وتقليل كميتها المدعمة، بالإضافة إلى رفع سعر كيلو التقاوى من 40 جنيها إلى 1000جنيه مرة واحدة!
هذه المليارات الثلاثة كان من الممكن توجيهها لأغراض أكثر أهمية كرفع منظومة الصحة والتعليم فى مصر، أو التقليل من حدة الكثافة فى المدراس والمستشفيات، أو توظيف عشرات الآلاف من الشباب فى مشروعات زراعية أو صناعية مختلفة، وفى نفس الوقت نعطى الفرصة للفلاح لكى يقبل على زراعة الذرة ونقلل من حجم استيرادنا لها من الخارج، والتى تأتى لنا منزوعة الجنين وهو المصدر الاساسى للزيوت النباتية والتى نضطر أيضا لاستيرادها من الخارج، كما أن الفلاح يعتمد على الذرة كعلف للمواشى وهو ما كان يمكن أن يزيد من إنتاجنا للحوم ويخفض من أسعارها.
فى عصر الكورونا الذى بدأت آثاره فى تغيير ثقافة العالم، والتى كشفت أن فيروس واحد منه يمكنه أن يقلب حال العالم رأسا على عقب، والذى جعله يبدو حائرا ما بين استجابة دوله لمعطيات العولمة وفتح الأسواق بينها بشكل لم يحدث من قبل، ومحاولة تنميط الاستهلاك والأذواق لدى كل البشر، إلى اضطرار كل دولة أن تغلق حدودها وبيتها على نفسها، حفاظا على حياة الملايين من شعبها قبل أن يفترسهم هذا الفيروس فى أسابيع قليلة.
رغيف الخبز ممكن أن يفتتح معركتنا الراهنة مع حرب الكورونا بالبحث عن حلول غير تقليدية لأزماتنا المتفاقمة، وأن نغير من ثقافتنا المعيشية ونجعلها أكثر مرونة وفاعلية فى مواجهة مشاكلنا، وأن نحدد أولوياتنا الغذائية بناء على أسس علمية واقتصادية رشيدة، ففى العام الماضى استوردنا حوالى 13 مليون طن من القمح بزيادة 5 % عن العام الذى سبقه، وبزيادة 12% عن الاعوام الأربعة السابقة، ونستورد ما يقارب الـ 2 مليار دولار من الذرة، ليصبح إجمالى ما نستورده من القمح والذرة 5 مليارات دولار، وهو رقم مرشح للزيادة مع زيادة عدد السكان ومعدل الاستهلاك، رغم أننا نستطيع بسهولة توفير هذا المبلغ بكامله أو على الأقل غالبيته، لو قررت الحكومة إعادة النظر فى التركيبة المحصولية الراهنة، والاستفادة من هذه المليارات فى أغراض أخرى.
كل خطط الدولة لاستصلاح الاراضى الصحراوية يمكن بالتأكيد أن تحل أزمة الفجوة الغذائية فى مصر، لكنها بدون اتباع سياسة محصولية رشيدة فى الأراضى القديمة، لن تحقق هذه الخطط الأهداف المنوطة بها، وستلتهم الزيادة السكانية مليارات الجنيهات التى يتم استثمارها فى زراعة الصحراء بدون أن تنعكس إيجابيا على خفض الأسعار، وليظل المجال مفتوحا أمام مافيا الاستيراد من الخارج، ليراكموا المزيد من الأرباح على حساب اقتصادنا الوطنى وتدنى مستوى معيشة ملايين المصريين.
الأمن الغذائى لأى دولة هو عماد أمنها القومى، ومن لا يمتلك قوته لن يمتلك قراره، وسيظل عرضه لابتزاز هذا الطرف أو ذاك، أو ضغوط هذه الدولة أو تلك، وفى زمن ما بعد الكورونا سيصبح الاكتفاء الذاتى من الغذاء ربما مسألة حياة أو موت لملايين البشر، وليس مجرد سلاح تشهره الدول الكبرى فى وجه الضعيفة لتفرض عليها سياسات أو توجهات معينة.
توظيف كل مواردنا الذاتية للحد من الاعتماد على الخارج أصبح واجب الوقت، وهو الوجه الآخر لأزمة العالم مع كورونا الذى يمكن نتعلم منه دروسا لم نعد نمتلك رفاهية تجاهلها أو الرسوب فى اختباراتها الصعبة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved