قرار السعادة

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 23 مارس 2023 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

نبّهتني صديقة عزيزة إلى أن يوم ٢٠ مارس هو اليوم الذي يحتفل فيه العالم كله بالسعادة منذ اتخذّت الأمم المتحدّة قرارًا في ١٢ يوليو ٢٠١٢ بوضع هذا اليوم على أچندة احتفالاتها. واهتمّت الأمم المتحدّة كعادتها بوضع مؤشرات لقياس السعادة منها نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي، ومتوسط عمر الفرد، وجودة الخدمات الصحيّة والتعليمية، وانعدام الفساد، وحكم القانون. هذه المؤشرات بالتأكيد نسبية، فلو أخذنا متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي سنجد أنه لا يجلب السعادة بالضرورة، وبالنسبة لأبناء الجيل الذي أنتمي إليه بشكل خاص فلقد تربينا في الأفلام الأبيض والأسود على صوت الراوي الذي كان يصاحب التطور الدرامي للأحداث، وسمعناه عدة مرات وهو يقول: ليست السعادة في المال. صحيح أن هناك من الممثلين مَن كان يسخر من هذا القول كما فعل نجيب الريحاني ذات مرة عندما علّق على جملة: ليست السعادة في المال بقوله: يا اخويا اتلهي! لكن في كل الأحوال فإن المعنى هو أننا تربيْنا على أن السعادة ليست في المال أو على أقل تقدير فإنها ليست كلها في المال، وأن هناك أشياء مثل الحب لا يشتريها المال. وبالتالي فأن يزيد نصيبك من الناتج القومي الإجمالي، وتتمتع بمستوى معيشي مرتفع فهذا لا يعني أنك سعيد. ومثل ذلك يمكن أن يقال على باقي مؤشرات قياس السعادة التي وضعتها الأمم المتّحدة، فالتعليم الجيد لا يضمن السعادة .
• • •
والآن يا صديقتي العزيزة وقد ذكّرتينا بأن يوم ٢٠ مارس هو اليوم العالمي للسعادة فماذا يجب علينا أن نفعله في هذا اليوم بالضبط؟ أظن أن الإجابة المنطقية ستكون: في هذا اليوم ينبغي علينا أن نسعد.. فعلًا؟ مهما كان في هذا اليوم من منغصّات؟ والإجابة المنطقية أيضًا ستكون: نعم مهما تكون المنغصّات، وكما قال ماركس قديمًا يا عمّال العالم اتحدّوا تقول لنا الأمم المتحدة يا مواطني العالم احتفلوا بسعادتكم في يوم العشرين من مارس. ابتسَمتُ ابتسامة خبيثة وأنا أقول ربما كانت الأغنية الأكثر ملاءمة ليوم السعادة العالمي هي أغنية محمد ضياء الدين "اضحك.. اضحك اضحك اضحك"، لأن الأب يطلب فيها من ابنه أن يضحك في كل المواقف والظروف حتى لو "ماما كانت مش رايقة.. مشغولة عنّي ومتضايقة، مش فاضية مني تاخد بالها ولا عارفة كمان تفضى لروحها"، ولم أكن أجد مبررًا لأن أضحك بينما ماما مشغولة ومتضايقة، بل كنت أعتبر أن ضحكي بينما مزاج أمي مش تمام قد يزيد في عصبيتها.
• • •
ورغم ما قد يبدو في كلامي من انتقاد لفكرة أن السعادة يمكن أن تتحقق بتوجيه أممي، إلا أنني واحدة من الذين يؤمنون بأن السعادة هي قرار مقصود بأكثر منها حالة شعورية عابرة، وأنه طالما كانت هناك إرادة لإسعاد الذات فسنبحث عن السعادة في كل ما حولنا وسنستمدها من أبسط الأشياء، وسنكون قادرين على أن نستخلصها ونقبض عليها حتى في لحظات الألم. مضت عليّ فترة بعد رحيل والدي فقدتُ فيها تمامًا قدرتي على التوازن واستسلمتُ لمنطق أنه لا شئ يهّم، فإذا ما مرّ بي طيفه- على أي حالٍ كنت- حمل معه طوفانًا من الدموع. لكن بالتدريج درّبتَ نفسي على أن أجد في ذكراه ما يبهج ويدعو للابتسام، أتذكَره وهو يتآمر مع ابني للتخلص من رائحة حريق صينية البطاطس التي طبخاها معًا قبل عودتي من العمل، وأتذكّره وهو يقود سيارته بسرعة عشرين كيلو ويمشي على يسار الطريق ومن خلفه طابور طويل من السيارات وكثير من الكلاكسات المزعجة فإن أنا راجعته ردّ بأنهم هم المخطئون، وأتذكّره وهو يُسلم شعره القطني الناعم لابنتي تصنع له تسريحة تان تان وتلتقط له صورة بالكاميرا البولارويد، وأتذكّره كثيرًا وهو يضحك كطفل للمرة الكم لا أدري مع فيلم بطل من ورق أو اسماعيل يس في الطيران ففي داخله كان يسكن طفل كبير. أشتاق إليه طبعًا بجنون لكني حوّلت دفة اشتياقي إلى ذكريات وصور وحكايات ورسائل منه وإليه، فكلما وحشني مددتُ لها يدي أو خيالي، وابتسمتُ معه. نحتاج أن نضمّد جراحنا بأنفسنا، فالحياة التي لا نفقد فيها حبيبًا ولا تضيع منّا فرصة ولا نخسر خلالها عِشرة أو ثروة أو صحة هي حياة لا وجود لها حتى في الأحلام. وطالما الأمر كذلك قد يكون من الحكمة أن نتخّذ قرارًا بإسعاد أنفسنا بما تيسّر من إمكانيات وعلاقات وبشَر.
• • •
وإذا كان التعلق بمشاعر السعادة هو قرار فردي، إلا أنه في بعض المجتمعات يكون التمسّك بالسعادة قرارًا جماعيًا، فهناك شعوب بكاملها تعرف جيدًا طريقها لإسعاد نفسها مهما عاندتها الظروف، وكثير من شعوب البحر المتوسط تملك هذه الفضيلة كالشعب الإيطالي والأسباني والفرنسي.. وبالطبع الشعب اللبناني يمتلكون هذه الفضيلة. مرّت على شعب لبنان حرب أهلية طويلة وقاسية، وأزمات تقود لأزمات، غارات وتدخلات إقليمية ودولية وانفجارات تعادل آثار قنبلة نووية، اغتيالات مدوّية وودائع مصرفية ذهبت مع الريح، ورغم ذلك مازال اللبناني يمارس الرياضة على الكورنيش، ويحافظ على أناقة ملابسه ونفاذية عطره، ويملأ أفخم المقاهي. هذا الملمح في الشخصية اللبنانية لا يمكن أن تخطئه عين، ولقد كتبتُ ذات مرة عن تلك الأسرة البيروتية التي كانت تتناول شاي العصاري بعد انتهاء الحرب الأهلية مباشرة وقد اجتمع أفرادها بأمان في شرفة بلا سور وكأن احتمال أن تزّل قدم أحدهم احتمال مستحيل، وكتبتُ مرة أخرى عن المانيكان التي كانت ترتدي ثوب زفاف وسط حطام الضاحية الجنوبية في اليوم التالي لتوقّف العدوان الإسرائيلي عام ٢٠٠٦، وكتَبتُ مرة ثالثة عن عُقد اللمبات الصغيرة الملوّنة التي كانت تصل مسجدًا بكنيسة كجزء من زينة الكريسماس وأعياد رأس السنة الميلادية الجديدة. وأضيف هنا إنني حين سألتُ يومًا عن بائعة بسيطة كنتُ أتردد عليها في زياراتي لبيروت عرفتُ أنها أخذَت فرصة- أي أجازة- لتسافر شمّة هوا في تِركيا كما قالت لي صديقتها. ومثل هذا الشعب صعب جدًا أن تكسره لأن لديه من الإرادة ما يمّكنه من النبش عن السعادة في كل مكان وحيث لا يتوقّع أحد.
• • •
من الظلم أن نحبس سعادتنا في يوم واحد هو يوم العشرين من مارس من كل عام، ففي الحياة ما يستحّق أن نعيشه ونحتفل به على مدار أيام العام، فقط تَلزَمنا الإرادة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved