عن الحرية والأمن والحقوق

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 23 أبريل 2016 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

حرية الإنسان هى الطبيعة فيه وهى الأصل. تاريخ الإنسان، كل إنسان، هو تاريخ لتهذيب ممارسة هذه الحرية التى تكون فى منتهاها عندما يخرج إلى الحياة. التهذيب اعتباراته قواعد التعامل بين البشر، وهى أساسا الأخلاق. عندما لا تكفى الأخلاق لتنظيم التعامل بين البشر، يصدر القانون. قواعد التعامل بين البشر، أى الأخلاق والقانون، تهذِّب ممارسة الحرية من أجل أن يستطيع كل إنسان أن يمارس حريته. يقال إن الحرية حق، وصارت هذه الصياغة مقبولة، لأن ظلالا من الشك ألقيت على جدارة الإنسان بأن يمارسها. ولكن الحقيقة هى أن الحرية لصيقة بالإنسان وأنها طبيعية فيه. لذلك فإن أى تهذيب للحرية لا يمكن تحت أى دعوى من الدعاوى أن يكون بفرض قيود عليها تؤدى عملا إلى نفيها أو إنكارها.

من واحد من المناظير، التناسب عكسى بين الأمن والحرية، إن زادت الحرية نقص الأمن، وعليه فإنه لا بدّ من تقييد الحرية حتى يتحقق الأمن. بعبارة أخرى، هذا المنظور يعنى أنه كلما ارتفع منسوب تهديد الأمن كلما صار مشروعا تقييد الحرية. هذا منظور يروّج له فى مصر فى الوقت الحالى حتى تكتسب القيود المفروضة على الحرية، والتى يمكن أن تفرض عليها فى المستقبل، حتى تكتسب الشرعية. لأن التناسب العكسى بين الحرية والأمن مفتوح، فإن اكتسب هذا المنظور الشرعية فإنه يمكن أن تنطلق حلقة مفرغة خبيثة تفضى نظريا إلى القضاء التام على الحرية.

منظور التناسب العكسى بين الحرية والأمن يستند إلى طرح يروَّج له، ويراد له أن يكون من المسلمات، هو أن العالم يتآمر على مصر وأن ثمة خطة شيطانية شريرة للنيل منها «وإسقاطها». ليس من المفترض فى أى نقاش جاد أن يردّ على مثل هذا الطرح وأن يفنِّد ادعاءاته، ولكن تناوله هنا فى كلمات قليلة سببه بيان أنه أداة تستخدم لتقييد الحرية فى الوقت الذى تنبتّ الصلة فيه بينه وبين ممارسات السلطة فى مصر. الأغلبية الساحقة من المروجين لأطروحة التآمر والخطة الشيطانية يصرِّحون علنا أو يوحون بأن المتآمر هو مجموع الدول «الغربية»، أو أن هذه الدول توفّر الأموال «للمتآمرين الداخليين» لكى يقوِّضوا من استقرار مصر وأمنها. لأنه يراد له أن يكون من المسلمات، فإنه مثل الأيديولوجيا، طرح لا تقبل مناقشته ومضاهاته بالواقع. المروِّجون لهذا الطرح لا يأبهون بواقع علاقات السلطة فى مصر وممارساتها. هم لا يعنيهم مثلا أنه فى هذا الأسبوع وحده زار مصر، من الدول «الغربية»، كل من الرئيس الفرنسى، ونائب المستشارة الألمانية، وقائد القيادة المركزية الأمريكية، ووزير الخارجية الأمريكية، وأن الأول باع سلاحا لمصر وعقد صفقات ودخل معها فى اتفاقيات للتعاون الاقتصادى، والثانى ركّز على هذا التعاون، والثالث بحث مع نظرائه فى التعاون الدفاعى ومكافحة الإرهاب، والرابع تشاور بشأن النزاعات المتشابكة التى تضرب بمنطقتنا مع رئيس الجمهورية ومع زميله المصرى، وزير الخارجية، الذى كان، من جانب آخر، قد شدّد منذ أسبوعين اثنين فى واشنطن على الطابع الاستراتيجى للعلاقات المصرية الأمريكية وعلى أهميتها بالنسبة لمصر. المروِّجون لأطروحة التآمر لا يعبئون بأن الأشكال المختلفة للتعاون العسكرى والسياسى والاقتصادى تصب فى القنوات المغذية لاستقرار السلطة وتدعيم الأمن. هم يمادون فى الترويج لطرحهم حتى يصبح السند المريح لمنظورهم الداعى لمقايضة الحرية بالأمن، مستغلين نفور الشعب من التاريخ الاستعمارى الذى عانت منه بلادنا فى الجانب الأكبر من القرنين الأخيرين.

قد تكون نتيجة لهذا المنظور أن يتهم شخص أو أشخاص بعينهم بأنهم يخرقون الأمن فيحرمون من حريتهم، ولكن الأصل فيه هو التعميم وعدم تحديد مصدر المؤامرة أو المسئولين عنها، فهم تارة «طرف ثالث» غير محدد، وتارة أخرى «أشرار» مجهّلون. ولأن مصادر الخطر متعددة غير معروفة، فإنه يحق للسلطة التمادى فى تقييد الحرية.

يفوت المروّجين لهذا المنظور أن الغالبية العظمى من الناس يدركون أن الحرية ليست ترفا بل إن لها وظائف، ومن بين هذه الوظائف إقامة النظام العام وصونه، والأمن واحد من مظاهر هذا النظام. لقد قيدّت حرية التظاهر، وكبلّت حرية الأحزاب السياسية فى أن تنشط فى المجتمع وفى أن تنظِّمه وتعبئ قواه، وفى أن تصوغ قانونا انتخابيا يغذى التعددية والتنوع السياسى، وحيل دون أن ينشئ الناس جمعياتهم وأن يؤمنوا لها التمويل، وأعيق عمل هذه الجمعيات عندما نشأت، فهل تحقق الأمن للمجتمع؟ هل اندحر الإرهاب؟ هل انخفض معدّل الجريمة؟ هل خفّت وطأة مذبحة المواطنين، سائقين ومارة، فى الطرق العامة؟ هل أمن الناس على أنفسهم من تعدِّى ممثلين للدولة عليهم؟

مأساة الآخذين بمنظور التناسب العكسى بين الحرية والأمن هى أنهم لا يدركون أنهم مهما تمادوا فى تقييد الحرية وفى تكبيل من يمارسونها ويدعون إليها، فإنهم لن يستطيعوا بلوغ مبغاهم. عصرنا الراهن لا يمكن أن تخمد فيه الحرية. التكنولوجيا وسرعة الابتكار تحولان دون ذلك. وعليه فإنهم فى سبيلهم لتحقيق الأمن من منظورهم لن يحققوا إلا الفوضى. تصادم قوتين، ممارسة الحرية والعزم على إخضاعها، تسرعان فى اتجاهين متقابلين لن ينتج عنه إلا تبعثر فى أشلاء الحرية والأمن معا.

***

الحرية تتجلّى فى أشكال عديدة، فى حرية التعبير، وحرية الاجتماع، وحرية إنشاء الأحزاب والجمعيات، وحرية الاعتقاد، وغيرها. كل من هذه الحريات والتآلف فيما بينها هو الذى يؤدى إلى إقامة نظام عام صحّى وإلى صونه والحفاظ على الأمن. كل قيد على الحرية لا بدّ أن يكون محددا فى مداه ومدّته وأن يهدف إلى تعزيز ممارسة الحرية فى معناها المتآلف، وقبل ذلك ينبغى أن يصدر هذا القيد عن نظام سياسى تنشأ مؤسساته ويترشح ممثلوه وينتخبون بحرية فعلية.

مفهوم الحرية على أنها حق يوضع أيضا فى مقابلة مع حقوق أخرى، هى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. الحرية وغيرها من الحقوق المدنية والسياسية للبشر، مثل الحق فى الحياة، والحق فى محاكمات عادلة، والحق فى صون خصوصية الناس، والحق فى الاشتراك فى إدارة الشئون العامة، هى على نفس مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هى لا تعلو عليها. لا شك فى ذلك. ولكن هل تحققت فى مصر حقوق الناس فى مستويات معيشة لائقة، وفى مساكن صحية، وفى تعليم حديث سديد، وفى صحة قويمة؟ حقيقة الأمر هى أن تلبية هذه الحقوق أصعب فى البلدان النامية من الوفاء بالحقوق المدنية والسياسية وتستغرق وقتا طويلا، فهل يراد من الناس أن يتنازلوا عن كل فئات الحقوق هذه مرة واحدة ولسنوات طويلة قادمة؟ ثم إن علينا أن نتذكر تجربة الاتحاد السوفييتى والدول المسماة بالاشتراكية خلال عقود ليست بالقصيرة فى القرن العشرين.

الاتحاد السوفييتى والدول «الاشتراكية» قدّمت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على الحقوق المدنية والسياسية للناس، فما الذى كانت عليه النتيجة؟ فى هذه البلدان تمتع الناس بتعليم حديث رفيع المستوى وبخدمات صحية شاملة وجيدة وبفنون راقية فى إطار ما سمحت به الأيديولوجية الرسمية، ولكن إنكار الحقوق السياسية على المواطنين أدّى إلى سقوط الأنظمة السياسية فيها بل وإلى تحلل الاتحاد السوفييتى وإلى تفككه إلى خمسة عشر دولة. أيوجد انهيار فى الأمن أكثر من ذلك؟ أليس هذا انهيارا فى «الأمن القومى» إن كان تحقيق الأمن القومى هو الحفاظ على النظام السياسى وضمان استمراريته وبقاء الدولة وتأمين إقليمها؟ فى حالة الاتحاد السوفييتى «والدول الاشتراكية» أدّى إنكار الحقوق المدنية والسياسية إلى تقويض الأمن والإطاحة «بالأمن القومى» تحديدا. الأدهى من ذلك هو أن المستوى الرفيع للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لم يمكن الحفاظ عليه بعد تداعى النظام السياسى واستبدال دول عديدة بالاتحاد السوفييتى، فانظر إلى روسيا الاتحادية حيث لم يحلّ نظام جديد للصحة العامة محل النظام القديم وما صاحب ذلك من تراجع فى توقع العمر عند الولادة، أى فى متوسط عدد السنوات التى يعيشها المواطنون الروس.

***

الحقوق لا تتجزأ وكما أن الحقوق المدنية والسياسية لا ينبغى أن تتقدم على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فإن العكس أيضا صحيح. الفئة الأولى من الحقوق هى الكفيلة بتحقيق الفئة الثانية وبتأمين استدامتها.
التآلف بين الحرية والحقوق جميعا هو الذى يضمن للنظام السياسى استمراريته ويكفل للشعب الأمن المنشود.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved