عزل سيدة القصر

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 24 أبريل 2016 - 12:13 م بتوقيت القاهرة

بعد التاسعة مساءً بقليل، جلست ديلما روسيف أمام شاشة التليفزيون، بمقر الرئاسة البرازيلية، تتابع نتائج تصويت مجلس النواب بأغلبية ساحقة لصالح المضى قدما فى بدء إجراءات عزلها، بسبب اتهامات لها بالتلاعب فى حسابات الحكومة من أجل ضمان إعادة انتخابها فى 2014. أجواء التوتر الشديد التى خيمت على قصر ألفورادا فى برازيليا، يوم الأحد الماضى، كانت شبيهة بلحظات هزيمة فريق كرة القدم القومى فى إحدى مباريات كأس العالم، أما الأحداث السياسية التى عصفت بالبلاد مؤخرا فكانت أقرب إلى حلقات ما يسمى بالتلينوفيلا أو الدراما التليفزيونية البرازيلية التى عرفت هناك منذ مطلع الخمسينيات، مع بدايات التليفزيون، وانتشرت حول العالم فى أكثر من مائة دولة من خلال نسخ مدبلجة.

الحياة السياسية فى البرازيل لا تخلو من الإثارة والمفاجآت التى تغير النهايات فى اللحظات الأخيرة، لذا ليس من المستغرب أن يتم تشبيه ليلة الأحد الماضى وما سيترتب عليها، بمباراة كرة قدم أو بمسلسل «تلينوفيلا» يعتمد عادةً على الشغف والمشاعر الملتهبة والحب والكراهية والخيانة والصراع على المال والسلطة. ففى لحظات الفرقة وانقسام المجتمع إلى مؤيد ومعارض نستحضر - لا إراديا - عناصر الوحدة وكل ما من شأنه الحفاظ على تماسك الأمة، وفى حالة البرازيل كان الرهان دائما على كرة القدم و«التلينوفيلا» كعنصرين قادرين على تحقيق الاندماج داخل مجتمع شديد التعدد، لخلق هوية قومية أو أسطورة بلد، وسط هذا الزخم العرقى والثقافى.

***

تأسست جمهورية البرازيل الاتحادية فى عام 1889، تبعتها فترة من القلائل والحروب والانشقاقات استمرت حتى سنة 1930، ومن بعدها قرر الساسة الاعتماد على التراث الشفهى والموسيقى للتقريب بين مكونات الشعب، خاصة فى ظل ارتفاع نسبة الأمية وقتها، والتى تصل حاليا إلى 10.5% من مجمل السكان. استمر ذلك حتى نهاية الستينيات، لكن مع انتشار موسيقى الروك وغيرها من الموضات الفنية الآتية من أمريكا الشمالية، ومع ازدياد حجم الاستثمار فى مجال الإعلام وشركات الاتصالات، لاسيما فى ظل توجه الحكام إلى المزيد من التحرر الاقتصادى فى السبعينيات، حلت مسلسلات «التلينوفيلا» محل الموسيقى كوسيلة للتعبير عن ثقافة شعبية جامعة، تعكس طريقة تفكير أو أسلوب حياة، وتعد مكانا مثاليا لتصنيع الأحلام. طول عدد الحلقات التى تعرض فى أوقات ثابتة، ما بين الثامنة والتاسعة مساءً، على مدى أشهر عديدة يجعل الناس يندمجون مع الدراما، ويحرصون على متابعتها حتى لو انخفضت نسب المشاهدة مقارنة بالتسعينيات والثمانينيات، إلا أنها لا تزال تنافس كرة القدم فيما يتعلق بالقدرة على جذب الجماهير الغفيرة.

***

كرة القدم، تلك اللعبة التى لم يخترعها البرازيليون لكنهم أكسبوها رونقا خاصا، وارتبطت فى الأذهان بتاريخ بلادهم. واستخدمتها أيضا الديكتاتورية العسكرية فى البرازيل لسنوات كوسيلة لرأب الصدع وضمان السلم الاجتماعى، فلعبة كرة القدم تبيع الحلم للجميع من خلال المباريات الكبرى مثل كأس العالم أو الألعاب الأوليمبية وتعطى انطباعا بأن العالم موحد وقادر على اجتياز الكروب، حتى فى أحلك الظروف. لذا طالما ما تداخلت الانكسارات والانتصارات السياسية والرياضية فى البرازيل، وهو ما نشهده أيضا حاليا فى ظل أزمة الحكم التى وضعت روسيف على المحك، قبل حوالى مائة يوم من انعقاد دورة الألعاب الأوليمبية فى البرازيل (من 5 إلى 21 أغسطس المقبل) بتكلفة تقدر عشرة ملايين يورو، فى وقت بلغ فيه الركود الاقتصادى أعلى معدلاته منذ 25 عاما.

وزير الرياضة الحالي- ريكاردو ليسير - يعول على الأوليمبياد لتجاوز الأزمة ولم الشمل إلى حد ما وإعطاء دفعة للاقتصاد، فرغم وجود صعوبات إلا أن الاستعدادات تسير على قدم وساق. تتداخل الرياضة والسياسة أكثر فأكثر، وتتداخل عناصر الوحدة والفرقة، ويصبح كل من هم على الساحة السياسية أشبه بأبطال «التلينوفيلا»: الرئيسة ديلما روسيف، 68 سنة، بشعرها القصير والتجاعيد الخفيفة التى تحيط بعينيها، تحارب طواحين الهواء بعد ارتكابها مجموعة من الأخطاء السياسية والاقتصادية التى جعلتها تفقد شعبيتها بسرعة الصاروخ. لم ترض رجال الأعمال، وانقلبت عليها الطبقة الوسطى الميسورة والبورجوازية الصغيرة التى سئمت سياسات الدمج الاجتماعى وإعادة توزيع الدخل، بل واستعدت الفاسدين داخل الحكم، حين أطلقت يد القضاء للتعامل معهم. هى غير متورطة فى الفساد بشكل مباشر، بل تهمتها فقط محاولة إخفاء عجز الميزانية من خلال الاقتراض من بنوك حكومية حتى لا ينكشف الخلل، أما خصومها ومن أدانوها وصوتوا ضدها فأغلبيتهم أكثر تورطا فى الفساد منها شخصيا. نذكر على سبيل المثال نائبها والمرشح لخلافتها - ميشيل تامر - ورئيس مجلس النواب المحافظ - إدواردو كونها - المتهم بالضلوع فى الفساد وغسيل الأموال. أما أعضاء اللجنة الخاصة التى أوصت بالتصويت على عزلها، فتقريبا نصف أعضائها مدانون فى أعمال مشابهة. لذا يذكرنا المشهد بأشرار مسلسلات «التلينوفيلا» الذين يحركون الأحداث ويصبحون أحيانا أكثر شعبية وتأثيرا فى الناس من الأبطال الطيبين أو أصحاب النوايا الحسنة.

***

فى الواقع كما فى حلقات «التلينوفيلا» يصوت الجمهور لبقاء شخصية درامية أو اختفاء أخرى من على المسرح السياسى. تؤكد البرازيل أن الحياة فيها تسير على منوال مسلسلات «التلينوفيلا»، حيث يمكن للجمهور أن يقرر من خلال استبيانات الرأى أن الملل أصابه من شخصية معينة ويرغب فى التخلص منها، كما يمكنه التدخل لتغيير النهايات، وقد تأتى النتائج بخلاف المتوقع، كما يحدث حين تحسم ضربات الجزاء مباريات كرة القدم. وروسيف تنتظر الحسم وتقرير مصيرها فى شهر مايو المقبل، إذ يكفى أن يصوت أعضاء مجلس الشيوخ بأكثرية بسيطة لمصلحة إقالتها رسميا وإبعادها عن الحكم لفترة أقصاها ستة أشهر فى انتظار صدور الحكم النهائى بحقها، لنرى هل ستجلس فى مقصورة الرئاسة خلال ألعاب الأوليمبياد أم ستذهب أحلامها أدراج الرياح.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved