العراق على شفا التقسيم

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 23 أبريل 2017 - 9:50 م بتوقيت القاهرة

أكثر الأسئلة إلحاحا فى العراق الآن وقد اقتربت معركة الموصل من الحسم: ماذا بعد «داعش»؟
النذر تتطاير فى المكان والمخاوف تأخذ مداها من أن يكون على شفا التقسيم.
هناك مساران متداخلان لتفكيك ثانى أكبر دولة عربية.
الأول ـ يسابق الزمن بقوة السلاح فى لحظة اختلال موازين تحت عنوان «انفصال كردستان العراق».
والثانى ـ يترقب دوره بأثر الصراعات المذهبية وغياب أية رؤية تضمن تماسك الدولة المتداعية.
كألعاب الدومينو فإذا ما سقط حجر فإن أحجارا أخرى سوف تأخذ طريقها إلى نفس المصير.
بتعبير الزعيم الشيعى النافذ «عمار الحكيم»: «قيام دولة كردية يدفع البلاد إلى التجزئة وأن تطالب أطراف أخرى بانفصالات مماثلة».
وقد كانت زيارته إلى العاصمة المصرية دعوة صريحة فى الوقت بدل الضائع لإنقاذ العراق من التقسيم الماثل.
فى تلك الزيارة استعرض بالتفاصيل، مع كبار المسئولين والشخصيات العامة الذين التقاهم، مبادرة لها قوام واضح أطلق عليها «التسوية الوطنية» تستند على ركائز أساسية هى: وحدة التراب العراقى وعروبته واستقلال قراره.
أهمية المبادرة تعود ـ أولا ـ إلى توقيتها، فإقليم «كردستان» يتأهب لإجراء استفتاء عام للانفصال عن الجسد العراقى، ورئيسه «مسعود البرزانى» يواصل اتصالاته الدولية لدعم تلك الخطوة، وعلى الرغم من أنه لم يسم الأطراف التى يقول إنها تدعمه، فباليقين أن إسرائيل من بينها، وربما تكون الوحيدة المستعدة للاعتراف بـ«الدويلة الجديدة» ـ حسب تأكيدات «الحكيم».
الأخطر من ذلك أن قوات «البشماركة» استولت على مدينة «كركوك» العراقية الغنية بالنفط وغيرت بنيتها السكانية ورفعت العلم الكردى فوق البنايات الحكومية، كأنه «ترسيم حدود بالسلاح والدم» ـ كما حذر عن حق فى القاهرة.
ذلك مشروع حروب مقبلة قد تشارك فيها تركيا وإيران المهددتان فى بنية دولتيهما، التى تنطوى على أقليات كردية قد تطلب بدورها الانفصال.
وسط الإشارات المتضاربة لا توجد ثقة كبيرة فى التعهدات الأمريكية لحكومة «حيدر العبادى» بعدم انفصال الكرد.
فى النهاية كل شىء سوف يتوقف على حسابات القوة، فإذا ما أبدى العالم العربى ضعفا إضافيا فهو خارج كل حساب.
بالإضافة إلى مشروع الانفصال الكردى هناك مخاوف أخرى على ذات درجة الخطورة أن تدخل المناطق المحررة من قبضة «داعش» تصفية حسابات مذهبية أكثر تدميرا.
تلك المخاوف تجعل من انفصال «دويلة سنية» أمرا غير مستبعد.
فى واحد من السيناريوهات الكابوسية فإنها الدولة الفاشلة التى لا تحفظ أمنا ولا تحقق استقرارا ولا تضمن لمواطنيها أبسط حقوقهم الإنسانية، وهو يؤسس لإعادة إنتاج «داعش» بصيغ جديدة.
‫«‬الحكيم» أبدى ملاحظة لافتة تستحق التوقف عندها واستخلاص رسائلها، فقد استقبل أهالى الموصل «داعش» بالزغاريد عند اقتحامها بظن أنها ستنقذهم مما كانوا يعانونه من إقصاء وتهميش غير أنهم ـ بعد التجربة الدموية المريرة ـ استقبلوا بذات الزغاريد القوات العراقية فى المناطق المحررة من المدينة.‬
كيف نوقف اضطراب المشاعر ونصل إلى توافق يضمن الطمأنينة والعدل والمواطنة؟
ذلك هو موضوع المبادرة التى تعود أهميتها ـ ثانيا ـ إلى الثقل السياسى لصاحبها فى المعادلات العراقية، وأن ما يقوله يعبر عن رؤى وتوجهات لها أساس على الأرض أوسع من «التحالف الوطنى»، الذى يتزعمه ويحظى بأكثرية برلمانية، فضلا عن صفته كرجل دين شيعى نافذ له أنصار أقوياء وحلفاء يعتد بهم فى الحكومة.
بمعنى أنه لم يجئ للقاهرة تعبيرا عن نفسه ولا عن تحالفه البرلمانى بقدر ما يعكس توجها فى الحكم ولدى أطراف عديدة على المسرح السياسى العراقى المحتقن.
المبادرة فى خطوطها العريضة واضحة ومتماسكة وعلى قدر كبير من إدراك تعقيدات الموقف العراقى، والتفاصيل ضرورية لفهم حدودها وطاقتها، كما حدود الدور الذى يمكن أن تلعبه مصر وعالمها العربى.
على الرغم من الأوضاع العربية المتدهورة فإنه لا بديل آخر غير السعى بقدر ما هو ممكن لفتح آفاق الأمل على بقاء العراق موحدا.
إذا ما تفكك العراق ضاعت سوريا للأبد وضرب زلزال التقسيم باقى المشرق العربى فى لبنان والأردن، ممتدا أثره إلى إلغاء أى حق فلسطينى وتصاعد النفوذ الإسرائيلى فى الإقليم ودخول الدول العربية الأخرى، بلا استثناء تقريبا، فى حزام التقسيم.
الدفاع عن وحدة العراق وعروبته مسألة وجودية والتخاذل عواقبه وخيمة بأكثر من أى توقع.
فى عام (٢٠٠٣) احتلت بغداد، وجرى حل الجيش والأجهزة الأمنية عن تخطيط وقصد، ودفع العراق ثمنا باهظا من أمنه ووحدته.
كان ذلك تمهيدا بالنيران لما جرى فى العالم العربى من تلاعب فى مصائره.
فى رأى «عمار الحكيم» ـ كما استمعت إليه ـ أن التأكيد على عروبة العراق مسألة هوية أساسية لا تنفى الاعتراف بالتنوع العرقى فى بنية المجتمع وضرورة حفظ حقوق الأقليات، وذلك يتطلب إعادة صياغة الدولة من جديد كدولة «مواطنة» لا «محاصصة مذهبية وعرقية».
كما من رأيه أن «استقلال القرار الوطنى من طبيعة الشخصية العراقية»، والذى لا يدرك أبعاد تلك الشخصية لا يعرف شيئا عن العراق.
وفى تقديره فإن أفضل صيغة لخفض الاحتقانات المذهبية وبناء توافقات تؤسس لدولة جديدة هى: «لا غالب ولا مغلوب» ـ وفق ما اعتادوه اللبنانيون فى تجاوز أزماتهم المستعصية.
ذلك يستدعى أن تقدم جميع الأطراف المتنازعة من سنة وشيعة وكرد تنازلات متبادلة بمرونة طلب التوافق.
بصياغة أخرى لافتة فإن «الدولة الديمقراطية عمدة التسوية الوطنية».
فى التفاصيل هناك معضلتان تعترضان تلك المبادرة.
الأولى: إن تصوره لعقد اجتماع إقليمى تحتضنه القاهرة يضم إلى العراق ومصر السعودية وتركيا وإيران، يكاد يستحيل فى الظروف الحالية التئامه بالنظر إلى تعقيدات العلاقات بين الأطراف المدعوة وتداخل الأزمات الإقليمية بما يصعب الفصل بينها.
ربما الأوقع العمل على التوصل، بالوسائل الدبلوماسية المتاحة، لتوافقات حد أدنى تضمن عدم تقسيم العراق، والنظر إلى أزمته كمفتاح ممكن للأزمات الأخرى المستعصية.
والثانية: معضلة «الحشد الشعبى»، وفى نظر «الحكيم» أن دوره كان ضروريا لمنع سقوط بغداد فى قبضة «داعش»، حيث كانت على بعد عشرين كيلو مترا من عاصمة الرشيد.
غير أن المعضلة ليست هنا بقدر ما فى سؤال: هل يجوز لما هو مؤقت أن يأخذ طابع الدوام بإضفاء طابع قانونى على «الحشد الشعبى»؟.. وألا يعرقل مثل ذلك الاستثناء فرص إعادة بناء الجيش على أسس احترافية كبوتقة وطنية عامة؟
برغبة ترميم الصورة طلب رجل الدين الشيعى النافذ من الإمام الأكبر «أحمد الطيب» أن يرسل وفدا رفيعا من كبار علماء الأزهر الشريف إلى العراق ليعاين ويتفقد الأوضاع على الطبيعة وحقيقة أحوال السنة فى المناطق المحررة حتى توضع الأمور فى نصابها وحجمها وإطارها، وأن يذهب الوفد نفسه إلى الجنوب حيث لجأ نحو مليون عراقى سنى إلى المناطق ذات الأغلبية الشيعة ليتأكد من أنهم يعاملون كمواطنين عاديين.
الرسالة بذاتها جديدة واللغة إيجابية والنوايا مفتوحة على إزالة الاحتقانات المذهبية، وقد بدا «عمار الحكيم» أمام محاوريه القاهريين رجلا متزنا يعرف ماذا يقول، يختار عباراته بعناية، وأفقه مفتوح على الحوار والتفاهم حتى لا يضيع العراق.
ولعلها الفرصة الأخيرة قبل طوفان التقسيم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved