اقتصاد عالمى متشابك.. فى بيئة «جيوبوليتيكية» ملغومة

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الجمعة 24 أبريل 2020 - 11:30 ص بتوقيت القاهرة

لن يكون عالم ما قبل كورونا مثل ما بعده؛ هكذا يقول الجميع. ولكن ما هو الذى كان (قبل كورونا)؟ والحديث هنا عن الاقتصاد العالمى بالتحديد.
لقد كانت تلك مقامرة خطرة حقا، أن يحاول أحد أطراف اللعبة التى أسهم هو فى وضع قواعدها المستقرة منذ عشرات السنين، أن يعصف بها ويضرب بها عرض الحائط، كما يقولون، ليحاول النأى بها عن قواعدها، ويذهب بها باتجاه «المباراة الصفرية» الخالصة. ذلك ما قام به الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وإدارته الراهنة، فى مضمار التجارة المتبادلة مع شركائه الأقربين، وخاصة الصين، حين (قلب رأس المجنّ) وانقلب على ما كان قائما، وإن كان معه، من وجهة نظره، بعض الحق أو شيء من ذلك.
خلال ثلاثين عاما أو يزيد، شرعت الولايات المتحدة أبواب التجارة والاستثمار أمام الشركاء القدامى (أوروبا واليابان) والجدد نسبيا (بلدان الشرق الأقصى وبعض من أمريكا اللاتينية خاصة المكسيك والبرازيل والأرجنتين) والجدد (لا سيما الصين) مترددة بين الفتح والإغلاق و«المواربة»، قبل وبعد إقامة «منظمة التجارة العالمية» 1994.
وفى سبيل ذك مضت الرأسمالية العالمية مطلقة السراح تماما بعد انهيار المنظومة السوفيتية عام 1990 لتعيد تشكيل العالم على مثالها الاقتصادى وأنموذجها الثقافى، ولكن فى أسوأ صور الرأسمالية؛ وإنها ما تسمّى «الليبرالية الجديدة» التى قامت منذ منتصف السبعينيات من القرن المنصرم بالحلول محل مذهب تدخل الدولة و«دولة الرفاهة» فى كل من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بصفة خاصة.
ومنذ أوائل الثمانينيات، مع انفجار «أزمة الديون العالمية» فى الدول النامية، وخاصة المكسيك، كانت الدول الغربية الرأسمالية بالقيادة الأمريكية قد أوكلت إلى «صندوق النقد الدولى» ــ بالاشتراك مع «البنك الدولى» ــ مهمة القيادة الحثيثة للنظام النقدى والمالى الدولى، بما فى ذلك تصميم وإنفاذ صفقات الديون وفق برامج «التكيف الهيكلى»، حيث الاستدانة المشروطة بشروط معلومة تحقق الأهداف المبتغاة من «الصندوق» و«البنك».
عند هذه المحطات الانتقالية إذن، مضت الرأسمالية العالمية، وفى تواريخ تقريبية: من تدشين «الليبرالية الجديدة» 1975، إلى القيادة المشروطة للمنظمتين: الصندوق والبنك 1984، وسقوط الاتحاد السوفيتى 1990، ومن بعد ذلك: فرض «منطقة اليورو» وفق منطق سوق الليبرالية الجديدة فى 2000، ثم الخروج من مأزق الأزمة المالية 2008ــ2009 باستعادة فجّة (فى أوروبا) أو غير فجّة (فى أمريكا) للرأسمالية الاحتكارية النهمة ذاتها... وصولا إلى «أزمة كورونا» 2019ــ2020.
***
على طريق الأشواك ذاك، مضت تلك الرأسمالية الاحتكارية النهمة، وفق نسخة «الليبرالية الجديدة» بقيادة المنظمتين، فى أمريكا وأوروبا خاصة منطقة اليورو، تستعيد ماضيها البعيد وغير البعيد، حيث الشركات العملاقة عابرة الجنسيات، تخدم، وتخدمها، حكومات قصيرة النظر دائما، تدير الأزمات ولا تعالجها، كما هو الشأن طوال التاريخ الرأسمالى للعالم الكونى فى العصر الحديث. وكعهدها دائما قامت وتقوم بتدويل الإنتاج وفق صيغة لتقسيم العمل وتوزيع المهام، على النحو غير المتكافئ المعروف، الذى قد أنتج ما هو معلوم من ممارسات «الاستعمار القديم» طوال أربعة أو خمسة قرون متطاولة منذ فجر العصر الحديث فى مطلع القرن السادس عشر، ومن خلال «الاستعمار الجديد» فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم (ما بعد الكولونيالية) معها ومعه.
هذه كورونا إذن، تطل علينا، بعيون «الليبرالية الجديدة» حيث تغيب الحكومات الكبيرة لصالح الاحتكارات العملاقة، ويغيب منطق الوظيفة الاجتماعية لصالح منطق الربحية، وتُشيّد مصانع الأسلحة وتخاض الحروب بدلا من بناء المشافى والمدارس والجامعات من أجل الجميع. وهى تطل علينا وقد غاب المنافسون الحقيقيون والأغيار (السوفييت، وصين ماو تسى تونج) ليحل محلهم شركاء تابعون عسكريا أو منخرطون اقتصاديا فى سلاسل الإنتاج المدوّل والموسع على نحو غير مسبوق. سلاسل تعملقت لتلْتهِم الجميع كبارا وصغارا، من «الصين الجديدة» إلى سنغافورة، ومن كوريا الجنوبية إلى البرازيل والأرجنتين والمكسيك، مرورا بماليزيا وربما تركيا وغيرها عديد.
هذا هو العالم الاقتصادى الكوكبى، الرأسمالى العالمى، الذى أفرز أزمتين كوْنيّتيْن فى أقل من عقد زمنى واحد (بين 2009 و2019)، عالم جديد قديم، لا يرحم منطق السوق والربح فيه. يسعى إلى العالمية الموسعة للرأسمال ــ باسم العولمة، عابرا من فوق الأقاليم ــ باسم «الإقليمية الجديدة» New Regionalism مؤسّسا الاتحادات ــ باسم الفيدرالية، حتى فى عقر دار أوروبا (الاتحاد الأوروبي) ومقيما مناطق «الأسواق الحرة» فى كل مكان: أمريكا الشمالية والوسطى (نافتا وما بعدها) وأمريكا الجنوبية (ميركسور وغيرها) وأفريقيا (كوميسا وما حولها وما بعد الجميع: منطقة التجارة الحرة الثلاثية TFT) وآسيا (آسيان) وشراكة عبر آسيا والباسيفيكى، وشراكة عبر الأطلنطى. بينما تختفى أو تشحب التكتلات (القديمة) القومية حقا (الجماعة العربية). ومن خلف المشهد وأمامه، تطل من بعيد ومن قريب رايات الأنانية القومية لتسقط أوهام الاتحاد والكونية و«الأوروباوية»، حيث يسقط الاتحاد الأوروبى فى اختبار «بريكسيت» ــ خروج بريطانيا ــ ثم تحت سنابك كورونا على وقع أنين إيطاليا وإسبانيا، بينما تترك إفريقيا والمنطقة العربية وغرب آسيا للأقدار تقذف بها يمنةً ويسرةً، وإن كانت رفيقة بها حتى الآن، مع أقل قدر ممكن من ضحايا «الإصابات والوفيات».
تلك إذن هى كورونا، وهذا عالمها المهيب، الخائف المخيف، حيث الذى توقعناه من أثر هيمنة «الليبراليين الجدد» على المقادير، يصل إلى حد النذير بنهاية العالم الوشيكة، مع وصول التهديد البيئى والمناخى إلى أقصاه، بما يحمله من تهديد ممكن أو فعليّ للأوبئة والمجاعات.
ذلك ما يمكن لنا أن نصفه بالتشابك الاقتصادى العميق، تحوطه بيئة «جيوبوليتيكية» ملغومة أو مأزومة.
من أين وإلى أين إذن؟ ذلك ما نحاول السعى بين يديه الآن وغدا.
ولنبدأ بالسؤال من أين.. فمن أين؟
***
عالم اقتصادى وصل بمنطق التوسع الرأسمالى المعولم، إلى أقصاه، إلى نقطة لم يبلغها من قبل، منطق السوق والثمن والربحية والاحتكارات، والنّهّم، وفيضان الأموال الهائمة الساعية، والنزوع إلى الهيمنة على أكبر رقعة جغرا ــ سياسية ممكنة، مع أنانية «قومانية» مفرطة فى حقيقة الأمر. ذلك هو التشابك الاقتصادى الأقصى، تجسده سلاسل العرض Supply Chains سلاسل القيمة المضافة العالمية Global Value Added Chains تستأنف سيرة بدأتها منذ بدأت الرأسمالية كنظام عالمى خلال العصر الحديث. هو التشابك الذى لا يحدّه حدّ إلا منطق الربح، فتسعى إليه لاهثة (ولو فى الصين..!) وتضحّى باعتبارات الاعتماد الذاتى، وتذهب إلى أبعد مكان على الكرة الأرضية لتخفض النفقة وتزيد الإيرادات وتعظّم العوائد الخالصة، وتكدس الأموال فى خزائن الذهب الفيدرالية والبورصات العالمية وأسواق المال المعولمة فى أى مكان، وكل مكان.
هذا عالم ما قبل أو (قبيل كورونا): تشابكٌ مختلط بالأنانية القومية، وتمتزج فيه تيارات الأرباح المائجة، بسيل الدم المهراق فى حروب بلا نهاية ولا لزوم لها: من الحرب الكورية فى مطلع الخمسينيات، إلى حروب الهند الصينية وفيتنام فى الستينيات، إلى حروب الكيان الصهيونى ضد العرب منذ الأربعينيات، إلى حروب الخليج الثلاث فى الثمانينيات، وأفغانستان، عدا عن جولات التدخل العسكرى المتقطعة هنا وهنالك، خاصة فى أمريكا اللاتينية (الفناء الخلفى للولايات المتحدة).
وفى قلب التشابك الاقتصادى العظيم قبل كورونا، يشتعل التوجس «الجيو سياسى» المقيم بين طرفيْه الأبعديْن الأقربيْن: أمريكا والصين. حيث ربْح برائحة الدم فإذا هى (أرباح دموية) إن شئت، وتجارة ممتزجة بالحرب، فإذا هى حرب تجارية كما نشهد ونعلم من سيرة (دونالد ترامب).
قد جاءت كورونا إذن محملة بعبق مزيج من العطر والدماء، وخليط للأصوات المتنافرة من صليل السيوف ورنين الذهب الأصفر وخشخشة «الأوراق خضراء الظهر» ــ الدولارات. وقد تُخْفى كورونا كل ذلك وقتا، ولكن هل تخفيه أبدا..؟
ذلك ما نحن غير مُتيقّنين من كُنْهِهِ، فى عالم يسوده «عدم اليقين» كما يقال. ولكن فلنحاول فحص الأمر بعقل بارد نوعا ما، فيما قد يلى من أحاديث.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved