تلفزيون

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 23 أبريل 2021 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

أتوه كثيرًا بين القنوات، يُكتَب في شريطِ الأخبار عن مواعيد عرض مسلسلات، ثم تتأخر أو تبدأ قبل موعدها وأحيانًا أجد مُسلسلًا آخر بدلًا منها؛ أبحث فلا أعثر على ما خطَّطت لمتابعته. أضطر لاستخدام مُحرك البحثِ الأشهر جوجل، أو أستسهل الاستعانةَ بصديقةٍ أو صديق مِن عتاة المتابعين.
***
حين أعيتني الحيل في العثور على مُسلسَل اعتزمت رؤيته قبل أن يبدأ شهر رمضان، تذكرت أيامًا وَلَّت، كان البحثُ فيها مُقتصرًا على جريدتيّ الأهرام والأخبار. قفزَت أمام عينيّ صورةُ الصفحة الثانية وعمودان مُتجاوران في نصفِها الأعلى؛ أحدهما يحمل برامجَ القناة الأولى والآخر مُخصَّص للثانية. تصطفُّ برامجُ اليوم ومُسلسلاته في كلِّ عمود، وبجانبها الساعة التي تبدأ فيها. لا إعادة أو تبديل، ولا حيرة بين توقيتِ عرضٍ في بلد وآخر.
***
استدعت صورةُ العمودين ما كان عليه التلفزيون في زمنٍ غابر، قبل أن تُختَزَل كتلتُه الضخمة وتتحول إلى شاشةٍ رقيقة يحملها طفلٌ صغير. تذكَّرت الوششششش التي يغرق فيها الإرسالُ بحلول مُنتصفِ الليل، والأعمدةَ الرأسية الملونة التي يجاور أحدها الآخر، ولا يجد المرءُ سواها ما فتح الجهازَ في غير مواعيدِ البثِّ المُقرَّرة.
***
امتدت بي الذكرياتُ إلى مُسلسلِ السابعةِ، ونشرةِ أخبار الثانيةِ التي تأتي مَسبوقة بلحن سيمفونيّ لبيتهوفن، ثم إلى السلامِ الوطنيّ ختامًا في الليل، والقرآن في البدء عند الصباح.
***
عاودني النظامُ والترتيبُ، والتنوع اللافت رغم الاختياراتِ المَحدودة، وألحَّت عليّ البصمةُ الفريدةُ لكلِّ برنامج؛ اخترنا لك ونادي السينما وعالم البحار، وغيرها مِن برامج لا تتكرر أفكارها، ولا يُخطئ الواحد في اسم مُقدميها فلكل منهم طلة مُغايرة، وأسلوب ورونق خاص.
***
برامج المقالب التي انتظرتها بشغفٍ كبير في أيام الطفولةِ الأولى؛ حملت في ذاكرتي أيضًا خفَّة دمٍ أًصيلة، لم يكُن أيها مؤذيًا أو مُغرقًا في مبالغات هي أقرب إلى الاعتلال النفسيّ، لم يكُن أيضًا من المشاهدين مَن يُشكِّك أو يفكر في كونها مُعدَّة بصورةٍ مُسبقة وبالاتفاق مع ضحيةِ المَقلب. لم تكن هناك حاجةٌ لصرفِ ملايين الجنيهات؛ وربما الدولارات، لاجتذاب الجماهيرِ الجالسةِ أمام التلفزيون، أو لإغراءِ النجوم بالاشتراك وتقديمهم في ثوبٍ مُهين.
***
لا تختفي من ذهني أبدًا الألحانُ المُميِّزة لبعضِ البرامج، أسترجعها في جزلٍ بين الحين والآخر، ومعها أسترجع أيامًا أكثر هدوءًا وصفاءً رغم أنها لم تبد على هذا القدرِ من المثاليةِ في حينها. صحيح أن الحنينَ إلى الماضي قد لا يعدو وهمًا؛ يصدقه الواحد منا ما أرهقه الحاضرُ وغام أمامه القادمُ؛ لكن بعضَ المؤشرات والعواملِ يمكن قياسُها، ونقلها إلى خانة التقييم الموضوعيّ بدلًا من خانة الشاعريةِ الحمقاء.
***
في تلفزيون الماضي لم تكُن اللغةُ العربية قد انحدرت إلى ما صارت الآن عليه. احتفظ الحوار والتقديمُ بالحدود الدنيا مِن سلامة المُفردات والتراكيب، والحقُّ أن اللغةَ المَنطوقةَ وحدها ليست بيتُ القصيد، بل تُضاف إليها لغةُ الجسد التي خضعت اليوم إلى نقلةٍ مذهلة؛ فراح مذيعون يقفزون في أماكنهم وأحيانًا ما يغادرونها ويلوحون بأيديهم، ويصنعون بملامِحهم تعبيرات عنيفة؛ تتحرك فيها عضلاتُ الوجه بأكثر مما تتحرك أثناء العدو عضلاتُ الساقين والقدمين. البعضُ يكاد يقترب مِن مرحلة التشنج متصورًا أنه يغدو بها أقرب إلى الصدقِ عند من يراه، ولا يدرك أن في الثباتِ ثقةً وفي الرزانةِ إشارة خبرةٍ؛ تنتقل إلى السامعِ والرائي دون أدنى مجهود.
***
أقرر في العادةِ مُتابعة مُسلسَل أو اثنين على أقصى تقدير. أستبعد ما تخترقه مواد إعلانيةٌ كثيرة؛ إذا لا طاقةَ بي لمللِ الانتظار وفُقدان الشغف. أفضِّل أن أعثرَ على ضالتي وإن بصعوبة، عن اللجوء إلى تطبيقاتٍ يُمكن مِن خلالها متابعة أي مُسلسَل في أيّ وقتٍ ودون إعلانات؛ فلا زلت أحنّ حتى الآن إلى الالتزام بمَوعد ومُشاركة آخرين لا رابط بينهم سوى فعل التلقي؛ جميعهم يتفرج ويُعلِّق ويتفاعل مع المواقف في لحظةٍ واحدة؛ تمامًا مثلما لا تحلو مشاهدةُ مباريات كرة القدم، إلا في لحظةِ إذاعتها الأولى وبحضور الجَماهير.
***
هذا العامُ انتقيت مُسلسَلين أحدهما يُحتمَل إيقافُه لأسبابٍ واهية لا تمتّ لمُحتواه بصِلةٍ، وآخر انصرف كثير الناس عن الاهتمامِ ببطله لأفعاله المزعجة وسلوكياته المُستفزة. كلا المُسلسَلان يتمتعان بأداءٍ تمثيليّ رفيع، وإخراج مُتميز وطاقم عمل مُتفاهم إلى حدٍ بعيد. أحرص على مَوعديهما ولا أبحث عن إعادة إذا ما فاتني جزءٌ؛ فطقوس المشاهدةِ القديمة ما انفكَّت تلح عليّ مِن رمضان إلى تاليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved