سقط القناع عن القناع

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 23 مايو 2020 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

نلبس القناع الطبي أو الكمامة لكي نتعايش. نحاول أن نعتاد هذا الشيء الذي يكتم أنفاسنا ويجعل الأبخرة تتصاعد وتتراكم على زجاج النظارات، وبعضنا يحاول أن يتعامل مع هذا القيد الذي فرضه علينا الفيروس كجزء من ملابسنا اليومية أو من ملحقات الثياب كالقبعة والطاقية ورابطة العنق والقفاز ومروحة اليد، على اعتبار أن كل هذه الملحقات لها طابع وظيفي بالأساس للوقاية من البرد أو الحر أو الذباب، ثم دخلت تدريجيا في إطار الموضة. مشجر، مطرز، بأربطة مطاطية ملونة، شفاف ويحتوي على جزء يغنينا عن نظارات الشمس، ظهرت أشكال مختلفة ومتنوعة حول العالم لإكسابه جاذبية ما، حتى شركة ديزني طرحت في الأسواق كمامات للأطفال لتغطية خسائرها التي بلغت 1,4 مليار دولار من جراء كورونا، لكن تظل فكرة القيد تلعب برؤوسنا فالبشر عادة لا يحبون القيود، ما يجعل موقفنا منه لا مثيل له في التاريخ ولا يؤهله تماما لأن يندرج ضمن ملحقات الثياب بسهولة ويسر، ففي عقل الكثيرين هو يرتبط بالمرض وبفيروس عذب البشرية.
***
رغم أن كل الناس مهووسين بما بعد كورونا وبالتكهن بما سيأتي، ومنهم العاملين في مجال الموضة والأزياء الذين خسروا مبالغا طائلة بسبب الإلغاءات وضعف القدرة الشرائية، إلا أن الوقت لايزال مبكرا ومن الصعوبة بمكان التكهن بسلوك البشر بعد انتهاء الحظر. الأكيد فقط أن الكمامة بتنويعاتها ستنضم لمتحف الأزياء لتروي مرحلة صعبة من حياتنا وسنرى من خلال بعض العروض الفنية والمتحفية كيف يمكن للقناع الطبي أن يكشف عن مكانة الفرد الاجتماعية وثروته وعن الفروقات الشخصية وأن يكون وسيلة من وسائل التعبير عن هذا الوقت تحديدا.
***
ظهر القناع منذ القدم في العديد من الحضارات في آسيا وإفريقيا واليونان وأمريكا ليعكس عادات وتقاليد ومعتقدات وطقوس، بل كان له رمزية عالية فيما يتعلق بالإحساس بالخوف والقوة والجمال، فمثلا قناع "بوجاكو" في اليابان لا يزال حاضرا في الرقصات الفولكلورية ويعبر عن خصوصية آسيوية تحتفي بالأقنعة، ما يفسر أنه في زمننا الحالي الشعوب الآسيوية ترتدي الأقنعة الطبية بسهولة للوقاية من التلوث ومن الأنفلونزا حتى فيما قبل الكورونا، لأنها جزء من ثقافتهم الجمعية التي تتعامل مع الفرد كبعض من الكل، أما في الغرب ينظر لإخفاء ملامح الوجه بشيء من الريبة فهو يتنافي مع قيمة الفردية العالية. وفي إفريقيا دخل القناع الحداثة من أوسع الأبواب بسبب الكورونا، بعيدا عن الإرث الاستعماري ومعروضات المتاحف.
يتبارى سكان القارة السوداء في صنع أقنعة بديلة للتغلب على فقر الإمكانات، لم تعد تلك الأقنعة الخشبية المنحوتة التي تناجي الآلهة أو تخيف العفاريت، بل أقنعة مصنعة محليا بطرق بسيطة وسهلة. حوالي ثلاثمائة ألف خياط سنغالي قرروا أن يصنعوا أقنعة من القطن والبوليستر، مزودة بفلتر إضافي لتنقية الهواء والوقاية من الفيروس، رفعوا شعار "قناع لكل سنغالي"، لكي يفيدوا غيرهم ويكسبوا عيشهم في ظل أزمة طاحنة، وهو ما يفعله آخرون في دول أكثر إصابةً مثل الكاميرون وجنوب إفريقيا. قد تزين بعض هذه الأقنعة صور السحرة والمرابطين فتبدو الكمامات كأنها تميمة حظ أو تعاويذ ضد الكورونا. وفي بلدان أخرى كمصر تشد السيدات الشعبيات بطرف الحجاب أحيانا ليغطي الأنف والفم، تحتمين ببركة لا إله إلا الله وتوفرن ثمن الكمامة الطبية... تواكل وتقاعس عن التماس الأسباب قد يلقي بنا في الجحيم.
***
سنشاهد الكثير من طرق التعايش الفريدة من نوعها إلى أن يتوصل العلماء إلى لقاح فعال: مايوه ثلاثة قطع منها الكمامة لزوم الصيف، صور سيلفي لمن يهوون تسجيل المواقف واستعراض أمورهم الخاصة بعد أن تحولوا للهو الخفي، وفي انتظار ذلك ستسقط العديد من الأقنعة.. نرمي بعضها في سلة المهملات، ونزيح طرف المطاط لنتنفس قليلا، ومع كل نفس تخرج رغبة في سقوط أقنعة الفساد والكذب والزيف والرياء، رغبة في عدم تجميل ما ليس بجميل، بل يزداد قبحا كل يوم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved