هل الهجرة هى الحل؟

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الخميس 23 يونيو 2011 - 8:48 ص بتوقيت القاهرة

 بعد قيام ثورة 25 يناير والغياب الأمنى الذى أعقبها والذى ما زلنا نعانى منه حتى اليوم ولا ندرى متى ينتهى، هرع الكثير من الشباب بل والعائلات إلى السفارات فى محاولات مستميتة للحصول على فيزا لأى دولة عربية، بل وبعد أن نسينا حوادث الهجرة غير الشرعية وافتنا أنباء يوم الأربعاء 25 يونيو بأن القوات البحرية المصرية أنقذت 87 مهاجرا غير شرعى من الغرق، وكانوا فى طريقهم إلى ايطاليا على متن احد المراكب بخلاف 94 مصريا أنقذتهم قوات خفر السواحل اليونانية ايضا من الغرق فى نفس الوقت فهل الهجرة هى الحل؟

●●●


إن حلم الهجرة الذى يراود الكثيرين من الشباب اليوم يدعو إلى التأمل فكثيرون ممن هاجروا لم يفارقهم الإحساس بالغربة وكثيرون ممن لم يهاجروا يشعرون بالاغتراب فى أوطانهم، والسؤال هو ما الفرق بين الغربة والاغتراب؟ الغريب هو الذى انتقل من مكان يعرفه ويألفه إلى مكان آخر غير مألوف له، أما المغترب فهو الذى يشعر بالنقص فى مكان يعرفه تماما (وطنه الأصلى)، والغريب يشعر بعدم الرضا فهو إنسان يتمزق داخليا لأنه فقد مكانه الأليف واصطدم بمكان به حضارة وثقافة ولغة وعادات وتقاليد لا يحسن الحوار معها وهنا يفقد الغريب انتماءه للمكان الجديد ولنفسه، فالغريب الذى ترك بلده بكل ما يحتويه من ألفه لا يملك فى البلد الغريب ترف الاغتراب، فهو فى مكانه الجديد لا يتاح له أن يتقاسم تجربته مع البشر العاديين المحيطين به، وإذا كان البعض يقولون (كلنا غرباء) أى الغريب والمغترب، إلا أن هذا التعبير مجحف وغير دقيق لأن الغربة فى بلاد الآخرين لا يدرك معناها إلا الغريب بحق أى الغريب المغترب فى آن أو الغريب الكامل، وأنا هنا أتحدث عن الشباب المصرى بمسيحييه ومسلميه، الذين يتحدثون كثيرا عن اغترابهم فى وطنهم بسبب البطالة أو بسبب عدم حصولهم على حقوقهم لأن هناك وساطة فى كل وظيفة ووساطة أخرى لكى يرتقى فى وظيفته وإن كان المسيحى فى كثير من الأحيان يشعر بالاغتراب أكثر لأنه يمثل الأقلية إلا أن هناك شبابا مسلمين كثيرين يشعرون بالاغتراب بسبب فقرهم أو تهميشهم.

●●●


ودعونا نحلل موقف الغريب لكى ندرك أبعاد غربته والسؤال الذى يلح علينا فى هذا الصدد هو هل يشعر الغريب بالغربة لأن الآخرين يرونه غريبا أم لأنه يرى الآخرين غرباء فيتقوقع على ذاته من الخوف الوهمى الذى يسيطر عليه؟ وعلى أى حال فمن الطبيعى أن نرى الغرباء يعيشون فى جماعات منفصلة عن المجتمع الذى ينتقلون إليه، ولقد زرت بيوت الكثيرين من المهاجرين (الجيل الأول) واكتشفت أنهم يشاهدون التليفزيون والفضائيات المصرية، وكذلك الأفلام والموسيقى، ويأكلون الأكلات المصرية، وكأن البيت جزيرة منعزلة فى وسط محيط مختلف، ولا يتعرفون على مجتمعهم الجديد إلا عند خروجهم من أبواب بيوتهم وعلاقاتهم بالحضارة الجديدة محدودة بقدر ما يكتسبون فيها من أموال، وبالتالى علاقاتهم بالأجيال التالية من المصريين (أبنائهم) يشوبها الكثير من عدم الانسجام أو التفاهم، ذلك لأن الأجيال الجديدة تكون أكثر توافقا مع الحضارة التى ينشأون فيها وهذا أمر طبيعى جدا ومنطقى، وسبب هذا الموقف العجيب الذى يتخذه المهاجرون من وطنهم الجديد لأنهم يحنون إلى المكان الذى نشأوا فيه وهذا يؤثر فى طريقة معالجتهم لمواقف الآخرين وتصوراتهم عنهم، فهم لا يعرفون معنى (الآخر) إلا إذا امتلكوا شروط ومبررات وجودهم على هذه الأرض الغريبة بالنسبة لهم، ومشكلة هؤلاء المهاجرين هى التمزق بين الحنين إلى المكان الذى تركوه خلفهم وبين حوار مضطرب مع مكان آخر يضعون أقدامهم عليه، إن الحنين هنا هو إلى الإحساس بالأمان وسط عائلة وأجداد وطقوس متوارثة وذكريات طفولة والحنان الأمومى.

ولقد اندهشت جدا عندما تحدثت إلى ابنتى المهاجرة فى الولايات المتحدة بعد عام من هجرتها عام 2007 ففوجئت بها تقول لى إنها ما زالت تعانى من الغربة الشديدة رغم إجادتها التامة للغة الانجليزية وإدراكها تماما للخلاف بين الحضارتين واندماجها مع المصريين المهاجرين والأمريكان لأنها اجتماعية بطبيعتها، وما لفت نظرى فى حديثها قولها إنها لا تفهم بعض المصطلحات المستخدمة من الأمريكان أصدقائها باللغة الانجليزية وعندما ضحكت متعجبا لأنها أفضل منى بكثير فى اللغة الانجليزية قالت هل تتذكر مصطلحات الأفلام القديمة عندنا التى لا يفهمها إلا نحن وهى تلخص ثقافتنا وتاريخنا مثل (الليلة يا عمدة) أو (كلمتى مش هتنزل الأرض أبدا) حنفى (هاتنزل المرة دى،) (الوو يا حكومة) وبالطبع عندما يقول واحد منا هذه التعبيرات نضحك من القلب لكن لو كان بيننا أجانب فمن المستحيل ترجمتها لهم، وهكذا أيضا فى أمريكا لديهم مثل هذه المصطلحات فى أفلامهم القديمة والمسرحيات أو جمل قالها رئيس الولايات المتحدة وأخرجها الشعب من سياقها لذلك كانت ابنتى تشعر باغتراب شديد عندما يقول احد الأصدقاء مصطلحا أو تعبيرا يضحك الجميع إلا هى ثم يحاولون إفهامها التعبير أو المصطلح فتجد صعوبة شديدة فى فهمه إذ فى هذا التعبير تتلخص روح الأمة، القضية ليست مجرد عادات وتقاليد ودين وثقافة.

●●●


ولقد كانت هذه الفكرة بعيدة جدا عن ذهنى لكنى أدركت مدى صعوبة الغربة، أن المطلوب من الغريب أن يختزن خبرته السابقة وحكايات طفولته وحبه الأول ورومانسيته.. ويضع فوقها خبرة جديدة يتعرف عليها بعد أن يصل إلى الثلاثين من العمر وكان يجب أن يختبرها منذ طفولته، وهو هنا يعيش فى صراع حقيقى، إن الغريب يعيش انقطاع الزمن ورحيل الماضى، وهو يصارع مع حاضر لا ينتمى إليه، إن وجع الانقسام بين زمنين غير متجانسين يفرز عادة هذا النوع من الصراع الذى ينتج عنه نوعان من البشر الأول من يقف عند حدود الزمان والمكان الذى جاء منه فيتجمد فكريا ودينيا وثقافيا عند لحظة خروجه من مصر، فالذين هاجروا فى السبعينيات مثلا يرون مصر السبعينيات ولا يستوعبون التطور الذى طرأ عليها وكذلك من هاجر فى الثمانينيات أو التسعينيات، ولذلك تجد مثل هؤلاء أكثر تشددا وتعصبا وقد تقابلت مع كثيرين من هؤلاء الذين يتحدثون بمصطلحات زمنهم ويرفضون أى اجتهادات فى تفسير القرآن أو الإنجيل، وأى تغيير فى العادات والتقاليد، وينتقدون بشدة ما يحدث فى بلادنا، ذلك لأنهم لم يتركوا ماضيهم ولم يشتبكوا مع حاضرهم، أما النوعية الثانية التى يفرزها الصراع بين زمنين غير متجانسين، فهم أولئك الذين استطاعوا أن يهضموا الحضارة الحديثة التى انتقلوا إليها، وتألفوا مع المكان الجديد وروضوا حنينهم إلى الماضى فلم يتحول إلى حنين مرضى ورؤية وهمية للزمن السابق، فنجحوا وصاروا أعلاما فى مهجرهم وفخرا لمصر ومن هؤلاء دكتور احمد زويل ومجدى يعقوب وفاروق الباز وغيرهم الكثير.

●●●


إننا هنا لا ندعو للهجرة ولا نرفضها لكننا ندعو للتقييم الموضوعى فالهجرة ليست هى الحل، وأيضا عدم الهجرة ليس حلا، فالحل هو الإنسان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved