هؤلاء الأطفال فى الشارع لهم أسماء.. لهم كيان.. ولهم تاريخ
رانية فهمى
آخر تحديث:
الإثنين 23 يونيو 2014 - 8:15 ص
بتوقيت القاهرة
هكذا كنت أقول لنفسى عندما بدأت العمل والحياة منذ أربع سنوات مع الأطفال، وخاصة البنات، فى ظروف الشارع. ما علينا إلا أن نعطيهم حبا غير مشروط واحتضان واختيارات كثيرة فى الحياة غير حياة الشارع أو الزواج فى سن 13 سنة وحتما سوف ننجح: سوف تترك البنت حياة الشارع وتصبح عضوا فاعلا فى المجتمع وتدعيلنا.
ولكن يوما بعد يوم، الأطفال علمونى أن هذه وصفة ساذجة، وقاصرة.
•••
سألت البنات بعد أن خلعوا المناديل التى كانت على أعينهم وهم يقومون بتدريب من تدريبات التفكير الإبداعى الذى نقوم به معهم فى مؤسستنا أو بيتنا كما أحب تسميته: «حسيتوا يإيه لما كنتم مش شايفين؟»، هالنى رد كريمة (13 سنة): «انا شفت الدنيا أحلى وهى ضلمة، خدت إيه منها وأنا مفتحة؟»،
كما صُدمت عندما استطعنا أن نجد طبيب تجميل ليقوم بعملية لميرفت (18 سنة) بالمجان ليزيل آثار الحروق على جسدها جراء سكب ابيها ماءً مغليا عليها؛ عقابا لها على جُرم ارتكبته. وكانت ميرفت تقول لنا مررا أن أقصى أمانيها أن يكون لها جسد غير مشوه مثلها مثل بقية البنات. وعندما تم تحديد موعد العملية اختفت ميرفت. تلاشت. لم أفهم. لكننا علمنا أنها ارتعبت عندما علمت أنهم سيبنجونها فى العملية. من المؤكد أنه سوف يسرقون عضوا من أعضاء جسدها أو يقومون بتشويهها أكثر. فما هى الأمارة التى أعطاها لها الناس، أطباء أو غيرهم، كى تثق فيهم؟
وقالت لنا سامية (13 سنة) وهى تُحكم قبضتها على الكاميرا لتصور بها فى الشارع، فى جولة من جولات ورشة التصوير: اخيرا حاصور الناس بدل ما الناس هم اللى دايما بيصورونى.
أفبعد كل هذا الركام الهائل الذى تعرض ويتعرض له أطفالنا يكفى حب واحتضان وفرص كثيرة فى الحياة؟ لماذا نتعجب عندما تتركنا بنت من بناتنا بعد أن حاولنا إعطاءها هذه التوليفة من الدواء الذى كنا نعتقده شافيا؟
•••
أطفالنا علمونى أنه ليس هناك وصفة تصلح لكل الأطفال الذين يعيشون معنا فى مراكز الإقامة أو يترددون على مركز الاستقبال النهارى. إن مقولة أن الاستثناء هو الذى يثبت القاعدة ويدعمها هى مقولة خاطئة، فعندنا العكس تماما فالاستثناء هو القاعدة. نسأل كثيرا عن معايير الأداء فى المؤسسة ومعايير النجاح: هل بعدد الأطفال الذين استطعنا إعادتهم لأسرهم، أو دمجهم فى المجتمع أو مدى تأثيرهم على أقرانهم، وأجد نفسى لا أملك ردا: أشعر كثيرا أننا نحاول أن نمسك بالماء، هناك محاولات تبذل وبشائر بنجاح وبتغيير إيجابى على البنت، ولكن.. يحدث احيانا انتكاسة ولا نستطيع ابدا التكهن بتوقيتها أو بعمق تأثيرها.
•••
«إن تذاكر تنجح. كيف تكون هذه الوصفة سحرية والمجتمع يختار أن يشيح بوجهه عن أطفالنا، وبمنتهى الأريحية يصفهم بأنهم أطفال الشارع، وبأنهم قنبلة موقوتة. كيف نختزل أطفالا أو أناسا فى صفة واحدة وهى المكان الجغرافى الذى اجُبروا أو اختاروا العيش فيه لأن مكانهم الطبيعى لفظهم؟ تخيل نفسك أيها القارئ تقطن عمارة قديمة فقيرة مع بقية الجيران لا يربطك أى شىء بهم غير الحيز الذى تحتلونه: هل ينعتك المجتمع بأنك ابن «العمارة؟ هل يحرم أولادك من فرص التعليم الجيدة لأنهم أبناء العمارة؟ هل تمنع من دخول مستشفى أو ينظر إليك ككم مهمل إذا صادفك أحدهم فى الشارع لأنك ابن العمارة؟ هل توصم دائما بأنك قنبلة موقوتة وأنك مصدر للأوبئة والأمراض لأنك ابن العمارة؟ إن هؤلاء الأطفال فى الشارع لهم أسماء، لهم كيان، ولهم تاريخ حتى لو كان هذا التاريخ عمره سنتان أو 18 سنة، وكل بنت فى الشارع هى حالة منفردة ومختلفة عن بقية الأطفال الواقفين معها فى نفس إشارة المرور أو تحت الكوبرى أو داخل أكوام القمامة. وكما قالت بنت: «هو يعنى إيه طفل شارع، هو الشارع بيخلف؟».
إلى متى يجب أن تقوم مؤسسات المجتمع المدنى بكل الأدوار التى من المفترض أن يقوم بها مجتمع بأكمله: دور الأسرة للحب والأمان، والمدرسة للتعليم.. فأنا لا أعترف إطلاقا بالمدرسة التى يذهب إليها أطفالنا حيث المستوى التعليمى المتدنى وطريقة التدريس التى بها من المهانة والعنف التى تجهز على البقية الباقية من كرامة أطفالنا ــ والنادى للتدريبات الرياضية، والطبيب البشرى، والطبيب والأخصائى النفسى اللذان يعيدان تشخيص الأعراض العضوية كالتبول اللا إرادى وصعوبات التخاطب لأطفال من عمر عامين الى 15 سنة لأسباب نفسية بحتة، والمحامى الذى يحاول انتشال بناتنا من أقسام الشرطة.. ولهذا حديث آخر ذو شجن ــ واستخراج الأوراق الثبوتية التى بموجبها تعترف الدولة بالطفلة وتستطيع الحصول على النذر القليل من الحقوق الأساسية من تعليم وصحة وخلافه. إلى متى سنظل كمؤسسة مجتمع مدنى نقوم بدور الملقف الذى يلتقط المشكلة بعد وقوعها فى الشارع؟
•••
استخلصت الَعِبَر من منار، إحدى بناتنا البالغة من العمر 16 عاما والخطيبة المفوهة وأفضل سفيرة للدفاع عن حقوق الطفل، عندما لخصت حالتها وحالة بناتنا الأخريات المقيمات عندنا عندما قالت بكل بلاغة: شايفة سلك الكهربا اللى هناك ده؟ لما بتحطى الكبس فى الفيشة، اللمبة بتنور، مش كدة؟ اهو احنا بقى عاملين زى السلك ده: بس يا خسارة السلك مقطوع من كذا حته.. وانتم اللى بتحاولوا تعملوه إنكم تلحموا القطعات دى، لكن برضه السلك باين إنه مقطوع. وكل بنت هنا هى وشطارتها: تحاول تخلى القَطْعة ما تبانش قدام نفسها وقدام الناس. بس فى النهاية، العلامة حتفضل موجودة.
وبالرغم من كل ذلك، سوف نستمر فى «بناتى» فى محاولة تلو الأخرى. نفشل مع بعض الأطفال الذين تغلبهم معاناتهم ويجهز عليهم مجتمعهم، وننجح مع كثيرين الذين تكون معهم وصفة «إن نذاكر جميعا ننجح وصفة سحرية إما لأننا لحقناهم قبل فوات الأوان أو لأنهم سمحوا لنا أن نساعدهم فى أن يكونوا قنبلة متفجرة بكم هائل من العزيمة والإصرار والإبداع.