عوائق تجديد الخطاب الدينى - 19 - تخلف دراسة لغة القرآن

جمال قطب
جمال قطب

آخر تحديث: الخميس 23 يونيو 2016 - 11:25 م بتوقيت القاهرة

وهذا محور مهم من محاور الخطاب الدينى، ومع ذلك لم ينل حقه من العناية اللائقة فمازالت «مقررات» الدرس اللغوى للقرآن دراسة هزيلة متواضعة. بل دراسة لا تسمن ولا تغنى من جوع، ولا نجازف إذا قلنا إنها «مقررات» تعمق الفجوة بين الناس وبين الخطاب الدينى عامة، بل بين المسلمين والقرآن الكريم. ونظرا لأن «لغة القرآن» لفظا وأسلوبا هى المدخل إلى قلوب البشر وعقولهم، فإن تلك المقررات تستحق وقفة حق حتى يستطيع الناس تلاوة القرآن كما أراد الله«حق تلاوته».

ــ1ــ

فمن أبرز مناطق القصور فى الدراسات اللغوية للقرآن ذلك القول العجيب بـ«الترادف» أو مرادفات القرآن، وهم يقصدون بذلك أن فى القرآن الكريم ألفاظا يمكن إحلال بعضها مكان بعض فى المعنى!!! وهذا القول يعيب القائلين به ولا يعيب القرآن، فأصحاب هذا القول قد تجرأوا وزعموا«الترادف». ونحن نقرر مؤكدين أن القرآن الكريم كله ليس فيه لفظان يؤديان «معنى واحدا» بلا فوارق. بل إن الألفاظ التى قد يتقارب ظاهر معناها هى فى حقيقتها تتقارب مع وجود فارق بين كل منها وإلا ما غير القرآن ألفاظه.. وأقرب مثال لذلك لفظا «النبى» و«الرسول» بالإفراد والجمع فإن كلا منهما يتقارب مع الآخر فى أن النبى والرسول يتم اصطفاء الله له ثم الوحى إليه لتعليم الناس توحيد الخالق وعبادته، لكن «النبى» لا تأتيه رسالة تكليفية، أما «الرسول» فإنه يتلقى رسالة تضم تكاليف شرعية يتولى إبلاغها ثم بيانها ثم قيادة الناس فى تطبيقها.

ــ2ــ

وأحد أسباب رفضى لفكرة «الترادف فى القرآن» هو ما زعمه بعض المفسرين من وجود ترادف ثم تلقف المستشرقون دعوى الترادف ووصموا القرآن بما ليس فيه اعتمادا على قول القائلين بالترادف، وأمثلة ذلك كثيرة شاع منها اتهام المستشرقين للقرآن بأنه كتاب يحض على العنف والإرهاب ويشهدون بالترادف بين الألفاظ: ترهبون/ الفزع الأكبر/ تخافون/ يتوجس/ الرعب/ الفرق/ الفرار/ الجزع/ الخشية/ وجل... ورتبوا على ذلك أن القرآن مزدحم بالخوف والإرهاب!!!

ــ3ــ

وليست كل تلك الألفاظ تعنى «رعبا» ولا«إرهابا»، بل إن لفظ «ترهبون» الوارد فى آية ((..ترْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ..))، فأهل اللغة يعرفون ويفهمون أن معناه «تجعلون من يفكر فى العدوان يراجع نفسه» حيث إنكم معاشر المسلمين كما أمر ربكم: لا تعتدون، ولا تفكرون فى عدوان، ولا يفرض دينكم عليكم إكراه أحد على اعتناق الإسلام.. لكن الله يأمركم بإعداد القوة المسلحة لصرف من يفكر فى العدوان عليكم، وليس للعدوان على أحد.. وهكذا يستطيع المسلمون ــ إذا التزموا تعاليم دينهم ــ فى إعداد السلاح وتطويره من ناحية، وعدم العدوان من ناحية أخرى «نزع السلاح»، فهذا معنى «ترهبون» أى تخيفونه من العدوان فلا يعتدى ولا يتعرض للهلاك والدمار. فأين ذلك من «الإرهاب والعنف»؟ فلفظ «ترهبون» يعنى «تمنعون تورط البشر». ولك أن تستدل على هذا المعنى الفخم، وتلك القيمة الإنسانية العليا من قوله تعالى فى سياق علاقة الأنبياء مع الله ((..وَيَدْعُونَنَا رَغَبا وَرَهَبا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)) أى غير متجرئين على الشر، فأين ذلك من الرعب والإرهاب والعنف ؟!!!

ــ4ــ

ومن الأسماء الحسنى لله جل جلاله (الرحمن/ الرحيم/ التواب/ الغفور/ الرءوف/ اللطيف/ الغفور/ الكريم...) وليس فى كل تلك الأسماء الحسنى ما يكرر غيره، ولكنها «منظومة» تبين مدى اتساع حب الله لخلقه ورعايته لهم: فالرحمن خالق الرحمة، والرحيم قاسمها بين الخلائق بعدل وكفاية، أما التواب فهو مشرع التوبة لمن يخطئ حتى لا ييئس ويتمادى فى الخطيئة، أما الغفور فهو الذى يتجاوز عما وقع من الذنوب، أما العفو فهو الذى يمحو أثر الذنب من صحيفة المخطئ فلا يبقى أثر دال على المذنب الذى عفا الله عنه، واسمه «اللطيف» يشير إلى هذه المنظومة الواسعة المتكاملة من رعاية الناس قبل أن يخطئوا، وبعد أن يقعوا فى الخطأ إذ هو سبحانه الذى يدرك الإنسان فى كل حالاته ويقترب من العباد دون إزعاج ودون تكلفة ودون ضياع للفرص، بل إنه سبحانه يبدل سيئاتهم إلى حسنات.. إنه اللطيف. لذا فنحن فى تقصير شديد مع لغة القرآن مما يحول بين«ربانية الخطاب» و«ضعف البشر».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved