«أم بطة» وبنك الحظ

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 23 يونيو 2020 - 11:38 م بتوقيت القاهرة

 أصبح الوقت فائضا لا يتيح لمن كان يحتاجه أى فرصة لاستثماره والتعاطى معه.
قبل «كورونا» كان الوقت هو أملنا الوحيد.
أشياء كثيرة تعللنا بحاجتنا إلى وقت لإنجازها، مواعيد عمل لا تنتهى، أصدقاء وأهل لا نجد فرصة للقاء معهم، أما العائلة فقد كانت تشكو غياب عائلها المتواصل فى مهام تتعلق بالعمل وظروف الحياة، هذا بخلاف الكتب التى تصطف على أرفف المكتبة وتفيض عن حاجتها وتصرخ ليل نهار «اقرأونى وأنقذونى من الغبار».
والأدراج التى تمتلىء بأوراق ومخطوطات وملفات الكومبيوتر التى تحفل بمسودات لكتب لم تكتب ومشروعات كنا نتحجج دوما بحاجتها إلى مزيد من الوقت، وحين جاء الوقت أصبح مثل ضيف ثقيل نتثاءب أمامه بإصرار لكى يغادر ونستأنف تفاصيلنا.
وقتنا الآن (فاسد) لا يصلح للقراءة العميقة أو الكتابة المنتظمة، ولا يمكن معه أن نغامر بزيارات أو لقاءات مع غرباء خوفا من «شبح العدوى».
خلقت فكرة «التباعد الاجتماعى» مسافة من الصعب أن نقفز فوقها.
تمدد الوقت فى تفاصيل أيامنا وأصبح مثل «فجوة» فى أعمارنا أو مسافة نقطعها بين ما كان وما سوف يكون.
وقت طارئ، لا يصلح جسرا يؤدى إلى ضفة أخرى، فهو عائق مسيج بالخوف.
ما أتاحه فقط هو فرصة الحوار مع أفراد العائلة والصراع معهم أيضا لأننا جميعا صرنا مهمومين بالتفاصيل التى صارت خبزنا الوحيد.
تتهم الزوجة زوجها بأنه «حاشر دماغه» فى كل حاجة، حتى شغل البيت، وأسعار الخضار والفاكهة وأصناف الطعام».
ويضجر الأولاد من طلبات الأب ورغباته فى أن يشاركوه مشاهدة فيلم أو مسلسل قديم، رغم أن كل واحد منهم لديه «تلفزيون خاص» على الموبايل بعد أن أعفتهم «نتفيلكس» من عبء المشاهدة الجماعية ومن تكلفة الصراع على الفرجة وقوائم التفضيلات.
وبعد كل مناقشة يعود كل منهم إلى جهازه منتصرا لفكرة «الخصوصية والاستقلال» ويشعر الأب بخسارة معركة جديدة.
ومع انتهاء شحن «الباقة» أو شحن «الموبايل» لا يكون أمام هؤلاء المساكين إلا فقرة «تعبئة» الوقت بـ«فقرة الذكريات» التى يتبادلها الجميع ويضطرون معها لتكرار الحكايات والمشاهد لكن الجميع بـ«يعديها بمزاجه» فهواء البلكونة الطرى يخلق مبررات الغفران.
وتأتى «ساعة العصارى» بكرمها التاريخى لثبت أركان العائلة من جديد، وتتيح الفرصة لسماع أغنية آتية من راديو المطبخ ومعها «الحنان القديم».
وتسمح «أكواب الشاى بالقرنفل» وإلى جوارها «طبق اللب» بحديث مستطرد عن فوائد الأكل الصحى وأنواع الريجيم وتصير أى نظرة إلى السماء المطرزة بالطائرات الورقية ابتهال إلى الله يرجو رحمته ورفع البلاء.
وأى تأمل فى جوهره ابتهال، بل إن نزول الناس بهذه الطائرات رجاء جماعى، كرنفال يصنعه البسطاء وهم يقاومون بألوان طائراتهم «عتمة أيامهم» للتغلب على الوحشة التى خلقها الأحساس بتمتد «ألسنة الموت».
وحين يحل الظلام يعود أهل البيت إلى لعبهم المنزلية التى كانت قد انقرضت لكنها استيقظت من جديد وأصبح لها سعر وتمتلئ أسواقها بطلبات شراء حتى إن ابنى «حريف» البلاى ستيشن ومدمن الإنترنت أصبح صاحب مهارات فى ألعاب (بنك الحظ والسلم والتعبان والكوتشينة والليدو) الألعاب التى كتب لها الله حياة جديدة مع «كورونا».
حياة تذكرت معها أننى طفت القاهرة كلها قبل 4 سنوات وأنا أبحث لابنى نفسه عن طائرة ورقية كان قد لمح مثلها فى يد طفل يعبر شارعنا القديم وبعد بحث فشلت تماما فى إيجاد طائرة مماثلة حتى ظهرت البشارة فى هيئة ولد آخر عبر أمامى بطائرته وقال لى بعد أن سألته: «روح دور على أم بطة فى آخر الشارع» وركبت مع ابنى «توك توك» من النوع الفاخر، ووجدنا حارة كاملة يعمل سكانها فى صناعة الطائرات الورقية وزينة رمضان وهذه هى حرفتهم الوحيدة.
كانت أم بطة واحدة من سكانها وجه منحوت لـ«سيدة بتكح تراب» فعلا، باعت لنا طيارة ثمنها (خمسة جنيهات فقط) ــ وهى الآن لا تباع بأقل من خمسين ــ وابتسمت فى وجوهنا بطيب خاطر ودارت الأيام ومرت وأصبح للطائرات سوق وسعر وظل وجه أم بطة مشرقا برضا يستحيل نسيانه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved