عبقرية ثورة يوليو

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الأربعاء 23 يوليه 2014 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

حينما شرح عبدالناصر فكره فى كتيب «فلسفة الثورة» أوضح عدة أمور يجدر بنا أن نعيد قراءتها لنستخلص منها بعض العبر التى تعيننا على ترتيب أوراق ثورتنا الحالية. الأولى قوله إن الطليعة الثورية توقعت، بعد أن تحملت مسئولية تفجير ثورة كان لابد منها، أن تتدافع جموع الشعب لتكمل معها المسيرة، فإذا الكل يتسابق فى تلميع شخصيته عله يحظى بموقع متقدم فى نظام جديد لم يكن يمتلك تصورا عنه. ومضى يقول: «كنا فى حاجة إلى النظام، فلم نجد وراءنا إلا الفوضى؛ وكنا فى حاجة إلى الاتحاد، فلم نجد وراءنا إلا الخلاف؛ وكنا فى حاجة إلى العمل، فلم نجد وراءنا إلا الخنوع والكسل». ومن هنا كان أول شعار رفعته الثورة: «الاتحاد والنظام والعمل». ثم مضى يقول: «ولكل شعب من شعوب الأرض ثورتان: ثورة سياسية يسترد بها حقه فى حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فُرض عليه أو من جيش معتد أقام فى أرضه دون رضاه؛ وثورة اجتماعية، تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد».

وبينما مرت دول أخرى بالثورتين فى أوقات متفاوتة، فإن اقتصار مصر على الثورة السياسية فى 1919 أدى إلى إحباطها، وكان لابد من القيام بالثورتين معا. فكانت بداية السياسة بعزل الملك وبداية الاجتماعية بإزالة الإقطاع، وظلت المشكلة الرئيسية التناقض بين متطلبات استكمال الاثنين معا: فالثورة السياسية كانت تتطلب توفير إجماع شعبى، بينما استدعت الاجتماعية إعادة تشكيل العلاقات بين فئات المجتمع. لم يكن لإغضاب السياسيين الذين كرسوا النظام الذى قامت الثورة لإزالته وقعا يذكر على وحدة الشعب، ولكن تعددت توابع الثورة الاجتماعية التى اقتضت استخدام الأدوات الاقتصادية لكى تتقارب الفئات فى القدرات وتتوافق الآراء حول مفهوم الصالح العام. وقد أغضب الموظفين عدم حصولهم على نسبة أكبر من ميزانية الدولة، وتساءل عبدالناصر عما كان يحدث لو لم يقتطع من الميزانية 40 مليون جنيه للمشروعات الإنتاجية (بإنشاء مجلس الإنتاج) فيأتى العام التالى «فلا تستطيع الحكومة أن تدفع مرتبات موظفيها أصلا وأساسا». كان هذا هو الإدراك المبكر لجوهر القضية التى يدور حولها حاليا حوار تحت شعار العدالة الاجتماعية.

•••

إن هذا العرض من جانب شخص أعلن فى تواضع أنه افتتح عهدا جديدا ببدايات ذات وزن مؤثر فى أوضاع المجتمع وأنه يمد يديه لمن يتكاتفون لاستكمال مسيرة لا يملك هو ورفاقه رؤية متكاملة لتحقيق أهداف أطلقوها فلقيت ترحيبا هائلا من شعب تعاقبت عليه لقرون قوى الطغيان ولكنه ظل متماسكا ومتطلعا لمجىء ساعة الخلاص، فإذا بالمتشدقين بالديمقراطية يريدون وأد الثورة الاجتماعية فى مهدها. لقد أدرك أن المجتمع البشرى له جوانبه الأربعة: السياسى والأمنى والاجتماعى والاقتصادى، وأنه لا مغزى لثورة أو لمسيرة نهضة إلا بتناغم الأربعة معا. ثم مضى يرفض الحلول المبتورة والباترة، فأكد أنه لا جدوى من القضاء على فئة ترى الغالبية صاحبة المصلحة أنها تتربص بالبنيان الجديد قبل تثبيت أركانه، كما حدث فى ثورات وانقلابات فى بلدان أخرى. كما أكد أنه لا قيمة لإبقاء الهندسة المادية للمجتمع وإعادة توزيع أدوار القائمين بتشييدها. وبوجه خاص لا معنى لإبقاء النظام الاقتصادى الرأسمالى مع نقل الوظائف فيه من فئة لأخرى، كما حدث فى مجتمعات سيطرت عليها فكرة حسم الصراع الاجتماعى بالقضاء على الملكية الفردية لرأس المال التى تمكن أصحابه نصيبا مغتصبا من أولئك الذين لا يمتلكون سوى القدرات الجسدية والعقلية على الإنتاج، فإذا بالقلة التى تزعم أنها تنوب عنهم تمارس معهم نفس أسلوب الملاك المستبعدين، بل وتزيد فتقرر لهم ما يتعين عليهم اختياره كمستهلكين. ولم يمض وقت طويل حتى بلور عبدالناصر جوهر المسار الذى يجب على الجميع التكاتف للمضى به نحو الغايات المنشودة. ففى خطابه بمناسبة افتتاح مركز هيئة التحرير فى شبين الكوم فى 23/2/1953، قال: «إننا لا نبغى فقط نهضة عمرانية أو صناعية أو عسكرية، ولكننا نبغى نهضة بشرية».

•••

لقد ظل الكثيرون يرددون أهمية إعداد البشر لكى يكتسبوا القدرات التى تمكنهم من التعامل بكفاءة مع الأبعاد المادية للحياة، ولكن كان من الضرورى أن يقترن الاهتمام بالصحة والتعليم بالعمل على تذويب الفوارق بين الطبقات حتى يتسنى إقامة تحالف قوى الشعب العاملة. والأهم من ذلك أنه أدرك أن البنيان الاجتماعى، الرباعى الأبعاد، يجب أن يقوم على أساس قاعدة ثقافية مخلّصة من رواسب عهود الاستعباد والذل والخنوع ليستطيع الجميع أن يستجيبوا للصيحة التى رددها منذ اللحظة الأولى: «ارفع رأسك يا أخى.. فقد مضى عهد الاستبداد» فإذا الجميع يستنشقون عبير الكرامة التى لا يمكن أن تختزل فى جسيمات مادية، لأنها بحكم التعريف ملكة إنسانية. ولكن ظل السؤال الذى لا مناص له من إجابة هو كيفية التوافق مع واقع الحال فى المجتمع العالمى الذى يضم جميع الناس باعتبارهم المكلفين من الخالق بالخلافة فى الأرض ليعمروها.

•••

وإذا كان الهم الأول للثورة استكمال ما بدأته ثورة 1919 للتخلص من الاستعمار التقليدى المباشر، فإن الواقع العالمى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية أدى لإحلال استعمار جديد مستنسخ من نموذج التبعية الذى كانت تمارسه الولايات المتحدة فى نصف الكرة الغربى، قوامه الهيمنة الاقتصادية المتسترة وراء الحرية الاقتصادية، التى استخدمت فى الوقت نفسه فى الصراع مع المعسكر الاشتراكى، واستغلال حاجة المستعمرات السابقة لإعادة بناء اقتصادها بينما كانت تجاهد لتتعرف على كيفية إقامة نظام سياسى مستقل بدون امتلاك إمكانياته، وبناء اقتصاد متطور دون توفر متطلباته المادية والمالية والمعرفية. وحين أدرك عبدالناصر أنه لم يعد مفر أمام كل بلد من النظر فيما وراء حدوده ليعرف من أين تأتيه التيارات التى تؤثر فيه، خلص إلى أن مصر لا يمكن أن تتجاهل وجود دائرة عربية تحيط بها، وانتمائها لقارة أفريقية يدور فيها صراع مروع حول مستقبلها، ووجود روابط عقائدية وتاريخية تربطها بدائرة إسلامية. وسرعان ما قامت ثورة يوليو الثانية حين برز النموذج الذى بلورته فى تمكن دولة ناشئة من الاستقلالين السياسى والاقتصادى، وبدأت تمارس دورها الرائد فيه. هنا وهنا فقط تقرر تصفية تلك الثورة، فتوالت معارك السد العالى وتأميم قناة السويس والتصنيع المتطور والدور الريادى لبناء نظام اشتراكى ذى طابع إنساني، فكانت الضربة القاضية فى 1967، التى استكملت فى كامب ديفيد فى 1978 مرورا بانفتاح ورقة أكتوبر 1974، فتم هدم الركنين السياسى والاقتصادى لثورة لو ظلت على مسيرتها، لما عانت مصر ولا الدوائر الثلاث ما تعانيه الآن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved