إذلال

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 23 يوليه 2016 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

منظر العسكريين الأتراك عند القبض عليهم فى أعقاب الانقلاب، وبعضهم يتلقى ضربا خفيفا على القفا، بعد أن جرد من زيه الرسمى، كان مهينا دون شك، فمن هم فى السلطة يتعمدون إذلال الخصوم لقمعهم وتحقيق شكل من أشكال السيطرة الاجتماعية، لأن الخوف من الإذلال هو أحد أهم دوافع السلوك الإنسانى فرديا وجمعيا. والعجرفة واحتقار الآخر هى قطعا من وسائل الإذلال الفعالة، ما هو متوافر بالطبع لدى الطرف التركى الحاكم ولدى أى قوات احتلال تخشى المحتلين فى الواقع، فتمارس عليهم سلطة القهر.

نرى من حولنا يوميا مظاهر مختلفة للإذلال المتعمد: توقيف أفراد شعب على الحدود وفى نقاط التفتيش، هدم بيوت وإخراج سكانها للشوارع فى بهيم الليل، اغتصاب نساء طائفة بعينها، إذاعة صور قطع الرءوس على الهواء مباشرة، دولة ذات مديونية عالية مضطرة للإذعان ولم تعد سيدة قرارها، فيشعر أهلها بالهوان ويخرجون فى مظاهرات عارمة، معاملة عنصرية بسبب لون البشرة أو الدين، ما يفجر أعمال عنف شهدناها أخيرا فى أمريكا أو أوروبا أو فى عالمنا العربى. نلحظ ذلك فى العلاقات الشخصية كما فى العلاقات الدولية، فى الحياة اليومية كما فى الصراعات السياسية، وتكون ردة الفعل غاضبة، عنيفة، فى معظم الأحيان، لأن الأشخاص أو الجماعات التى يقع عليهم الذل يشعرون أيضا بالغبن والدونية وأنهم تلقوا معاملة لا تليق بهم أو لا يستحقوها، لذا يعبرون عن جرحهم ويحاولون الثأر لأنفسهم ولجماعتهم، فالفرق بين الذل والعار هو الإحساس بالظلم الذى يشعل الغضب والذى يكون من الصعب تخطيه.

لا نحتمل الموقف فنستثار ويخرج أسوأ ما فينا، فالمعاناة النفسية تكون شديدة للغاية، إذ يندرج الإحساس بالذل ضمن أوجاع النفس الخمسة: الرفض، الهجران أو التخلى، الإذلال، الخيانة، الظلم.

***

يبدأ الطفل فى إدراك الشعور بالذل ما بين عامه الأول والثالث، ثم يظهر فى علاقات الرجل بالمرأة، الأهل والأبناء، لكن الأصعب هو الشعور بالذل الجمعى، عندما تشعر به طائفة معينة أو شعب خرج مهزوما من الحرب مثل ألمانيا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهو ما يفسر به البعض سلوك هتلر فيما بعد.

جاء رد هتلر عنيفا ليثأر للشرف القومى، بخلاف نيلسون مانديلا مثلا الذى اختار طريقة سلمية، تقوم على المصالحة والتسامح لتحقيق العدالة فى جنوب أفريقيا، وهو ما يحتاج دراسة مقارنة معمقة. كما نحتاج أن نقارن ربما بين سياسة ألمانيا المهزومة وسياسة روسيا حاليا، هل لكل منهما علاقة بشعور عام بالهزيمة والذل؟ وهو ما يشير إليه أستاذ العلاقات الخارجية المعروف والأكاديمى الفرنسى ذو الأصول الإيرانية، بيرتران بادى، صاحب كتاب «زمن الأذلاء، انعكاس المرض على العلاقات الدولية»، فى تفسير جزئى لرغبة بوتين فى السيطرة على جزء من الأراضى الأوكرانية أو فى محاولة لفهم سياسته الخارجية فى السنوات الأخيرة. يقارب بادى بين الحالتين، موضحا أن ألمانيا تم تهميشها بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى، واضطرت بموجب معاهدة فرساى للسلام عام 1919، إلى الاعتراف بمسئولية الحرب وتعويض الأطراف المتضررة ماليا، أما روسيا فقد خسرت الحرب الباردة عام 1989 وتم إقصاؤها خلال تعريف وترتيب النظام العالمى الجديد. هذه الخسارة طعنت الاتحاد السوفيتى السابق فى مقتل، ما كان له تأثيره بالطبع على السياسة الخارجية المتبعة.

***

تاريخ روسيا ومواقفها من أوكرانيا والقوقاز أعقد بكثير، وهو ما يقره الأكاديمى الفرنسى، لكن مقارنة شعور أمة بالهوان جديرة بالاهتمام، لأن فهم مثل هذا النمط من سلوك الشعوب والحكام، قد تساعدنا فى درء الكثير من العنف. قد نفهم مثلا لعبة الداعشيين الذين يجرون قوى العالم المستثار من صور القتل والتنكيل المباشرة على الإنترنت إلى مزيد من العنف والقتل، يدفعون بهم إلى مواجهة للثأر لكرامتهم بعد إذلال رعاياهم. قد نفهم غل امرأة انتقمت من زوجها لأنه أذلها على مدى سنوات. قد نفهم دوافع انضمام البعض للميلشيات بعد اغتصاب نسائهم. قد نفهم منطق أشخاص جدد على شاكلة هتلر أو منطق من يفجرون أنفسهم يوميا فيصيبون المئات لأنهم أذلوا وغضبوا. قد نفهم منطق ما سيلحق بتركيا فى المرحلة التالية. وقد نفهم أيضا أننا من نعطى الآخرين الفرصة لكى يشعرونا بالذل والدونية، وإلى أى مدى هو وضع مؤلم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved