العذراء والحسون والجمل

عماد عبداللطيف
عماد عبداللطيف

آخر تحديث: الإثنين 23 يوليه 2018 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

تتنازع الإنسان فى حياته أمور شتى؛ الهوى والواجب، الراحة والعمل، الحق والمصلحة، وغيرها. ومن بين الثنائيات التى يعانى الإنسان الاختيار بينها ثنائية الصمت والكلام. وهى ثنائية شغلت شعوب البشرية عموما، والمصريين خصوصا، طوال تاريخهم.
***
عرفتْ مصر منذ فجر التاريخ قيودا كبيرة على الكلام، وأشار عدد من دارسى البلاغة الفرعونية إلى الصمت بوصفه قيمة كبرى لدى المجتمع المصرى، مقارنة بمجتمعات أخرى. وترجع هذه القيمة الاستثنائية للصمت إلى حرص الفراعنة على صياغة قوانين الكلام بما يخدم مهمة أساسية؛ هى الحفاظ على الوضع القائم فى المجتمع. ولأن التحدث بحرية دون قيود يشكل خطورة على «الاستقرار»، و«الوضع القائم»، و«الثبات»، «والنظام المستقر»؛ فقد وضعت المؤسسات المصرية القديمة قيودا صارمة على الكلام، وقلصتْ على نحو كبير السياقات الداعية له، ورفعت مكانة الصمت، الذى يعنى بالضرورة «قتل» الكلام.
***
يزداد فهمنا لفكرة خطورة الكلام على النظام المهيمن فى مصر القديمة بالنظر إلى سيادة مبدأ تفاوت السلطة فى معظم تاريخها. فقد تكون المجتمع غالبا من طبقات، يصعب أن ينتقل الشخص بينها، وبخاصة فى ظل توارث المناصب والمهن. وكانت التعاليم، والمواعظ الدينية، والوصايا المجتمعية والأدب الشعبى والرسمى، أدوات صياغة الوعى الجمعى للمصريين؛ كى يؤمنوا بأن تفاوت السلطة، والثروة، والمكانة فى المجتمع، وضع طبيعى، بل الوضع الممكن الوحيد؛ لأنه يستمد قوته من الآلهة أنفسها، وأن محاولة تغييره يمكن أن تقود المجتمع بأسره إلى الدمار. ويُعدُ الصمت الأداة الأساسية للحفاظ على هذا الإدراك من النقد، والتفنيد، والتقويض، ومن ثم اعتُبر الصمت فضيلة كبرى، يجب أن يتمسك بها جميع أفراد الشعب.
هذا التقدير المصرى القديم للصمت اتسق مع طبيعة السلطة السائدة فى ذلك الزمان. فقد كان زمام السلطة فى أيدى شرائح محدودة من المصريين، يشكلون هرما يقف على قمته الفرعون والأسرة الحاكمة، تليه شرائح رجال الدين، والجند، والتجار الأغنياء. فى حين خضع أغلب أفراد الشعب المصرى لهيمنة شاملة، دون أن يملكوا من أمر وطنهم إلا القليل. وكان الصمت الأداة الأبرز للحفاظ على هذا الوضع. وتتبدى مأساوية هيمنة الصمت حين نقارن مصر القديمة، بمجتمع آخر قديم أيضا مثل المجتمع الأثينى، الذى فتح الباب أمام معظم المواطنين؛ لشغل المناصب، والوظائف الكبرى. وكانت القدرة على الإقناع أداة أساسية للبرهنة على جدارة شخص ما بمنصب معين، فتراجعت قيمة الصمت، وارتفعت قيمة الكلام.
***
الصمت حمال أوجه؛ فمعانيه ودلالاته ليست واحدة فى كل الأحيان. وسوف أخصص هذا المقال لاستكشاف ثلاثة أنواع فقط من الصمت، استنادا إلى طبيعته، وأسبابه، ودلالاته، وآثاره: سأسمى الأول «صمت العذراء»، والثانى «صمت الحسون»، والثالث «صمت الجمل».
صمتُ العذراء
هذا النوع من الصمت مزيج من الاختيار الحر، والرضوخ لأعراف المجتمع. فهو علامة على الإذعان الطوعى، والقبول الاختيارى، للامتناع عن الكلام. وينتشر هذا النوع من الصمت عادة فى المجتمعات التقليدية التى تجعل الصمت قرين القبول المهذب لكلام المتكلم، أو اقتراحه، أو أمره. كما يظهر فى عبارة «السكوت علامة الرضا»، الشائعة فى سياق الحصول على موافقة العذراء على اقتراح ولى الأمر بقبول شخص ما زوجا لها. والصمت، فى هذه الحالة، دليل على تفاوت السلطة، إذ يُترك لولى الأمر تأويله، وترجمته إلى عبارة (أوافق أو أقبل). وتكتفى العذراء وفقا لهذا الطقس التقليدى بالصمت، أو هز الرأس؛ تأكيدا منها على أنها لا تمتلك فى هذا الموقف حق الكلام، وأن الكلام لن يكون إلا تعبيرا عن المخالفة والرفض.
يكاد يتراجع انتشار «صمت العذراء» على المستوى الاجتماعى بمرور الزمن، بسبب التحولات الجذرية، التى تدعم حق الفتيات والقصر فى الكلام، تعبيرا عن الرأى، بل حق الاختيار الحر الكامل فى كثير من الأحيان. ويقتصر «صمت العذراء» فى سياق السياسة؛ على التواصل المباشر مع أشخاص يجمعون بين سلطة سياسية، وسلطة عرفية، أو قبولا اجتماعيا، على نحو ما كان يفعل «عمدة القرية»، أو «شيخ العرب»، أو «كبير العائلة» فى عهد قريب. لكن هذا الصمت يتراجع تدريجيا بفعل عمليات تحديث المجتمع، واستقلال الشخصية الفردية.
صمتُ الحسون
الحسون أو المُقنين طائر برى مغرد، صغير الحجم، ملون الريش. نُظر إليه قديما على أنه رمز للصبر، والتحمُل، والخصوبة، والمثابرة. يغرد طائر الحسون بصوت عذب جدا، ويشجع جمال صوته، وروعة منظره محبى اقتناء الطيور إلى صيده، أو شرائه بأغلى الأثمان. يدخل طائر الحسون فى حالة صمت لأسباب أهمها، عدم الشعور بالأمان، حين يتملكه الخوف، بسبب تعرضه للأذى من حيوان مفترس، أو فقده الثقة فى مالكه وراعيه.
يبدو صمتُ الحسون أشبه بصمت المقهورين من البشر؛ حين يسدُ الخوف باب الكلام. وقد عرف المصريون طوال تاريخهم حالات لا حصر لها من وضع السيوف فوق الألسنة. وأصبح التكلم، وبخاصة فى الشأن العام، بابا للأذى، فتوارثوا عبارتهم الأثيرة «الباب اللى تجيلك منه الريح.. سده، واستريح). وصمت الخوف لا يُخفى صوت طائر الحسون فحسب، بل يفتك بالحسون نفسه، كما يفتك الصمت بأكباد المقهورين. والفرق أن البشر استطاعوا مقاومة خناجر الصمت القهرى، بواسطة أنواع شتى من الكلام المستور؛ منها الفضفضة، التى تعنى محاولة تنفيس الهم المكبوت، ومنها النكت اللاذعة، التى تمثل شكلا من أشكال الانتقام الخفى من القوى التى تفرض الصمت. وتحتاج المجتمعات العربية عموما إلى دراسات شتى ترصد أشكال مقاومة الصمت القهرى بواسطة الكلام المستور. وعلى خلاف صمت الحسون الذى يفتك بالصامتين، هناك نوع آخر من الصمت، يمثله على نحو نموذجى صمتُ الجمال.
صمتُ الجمل
الجمل حيوان صحراوى، يُضرب به المثل فى الصبر، وشدة التحمل مثل الحسون. لكنه مضرب المثل أيضا فى الذاكرة القوية، والانتقام ممن أذاه، حين يفيض به الكيل، ولو بعد سنين طويلة. وقد لاحظ المصريون أن الجمل يصبر على الأذى، والشدة، والمعاناة، فلا يصدر عنه أى تبرم أو شكوى. وفى كتاب الجمل فى أمثال العالم العربى يذكر دكتور إبراهيم شعلان أن المصريين وصفوا الإنسان الصامت صبرا على الأذى، شديد الاحتمال، بأنه «زى الجمل ما بيبعبعش». والبعبعة صوت دال على الضيق والتوتر، أصبح يعنى عند المصريين الفضفضة بعد صمت طويل. لكن المصريين أدركوا أيضا أن الجمل الصموت، الذى يصبر، ويتحمل أذى مالك زمامه، قادر على الانتقام، فقالوا «الجمل لما يبعبع بيعض»، وهو مثل يُضرب لمن يصبر على المعاناة، والأذى، حتى يفيض به الكيل، فلا يموت صمتا مثل الحسون، بل ينتقم غضبا مثل الجمل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved