الخوض فى الأرض التى لا نعرفها

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الخميس 23 يوليه 2020 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

يمثل الكوفيد 19 لمصر والعالم تحديا فريدا.. ففى خلال ثلاثة أشهر أو أكثر قليلا تغيرت الحياة كما نعرفها بصورة درامية وسيطرت حالة من اللا يقين للدرجة التى تجعلنا نتساءل إلى أين نتجه؟ وبينما تصور البعض فى البداية أننا أمام عارض طارئ سينقشع قريبا، تُظهر الوقائع شيئا فشيئا ويوما فيوما أننا أمام حدث كبير، حتى وإن تم التعامل معه فى خلال السنة القادمة والسيطرة عليه لكن تأثيره الملموس اقتصاديا قد يستمر حتى عقد كامل وربما أكثر. ولكن التأثيرات الأكثر أهمية ربما تظل معنا لفترة أطول بكثير.
كنت منذ مدة مشغولا بكيف ستؤثر الجائحة علينا فى السنة الجامعية القادمة وكيفية تواصلنا مع الطلاب، ولكننى أدركت أن المسألة ربما تكون أكبر من ذلك وشرعت فى كتابة مسودة أولية بها العديد من النقاط التى نحتاج أن نتحاور فيها محليا ودوليا حتى يمكن أن نقوم بتدريس فعال يأخذ فى حسبانه ما يقع وما هو متوقع أن يمتد تأثيره إذ إننا لا نستطيع أن نتجاهل ذلك وإلا نكون وكأننا اخترنا الانفصال عن واقعنا.
***
ما طرحته فى نقاش دولى عبر الإنترنت هو أن ما حدث، ولا يزال، يدعونا لإعادة التفكير والتأمل فى «ما هو أساسى» كالماء والهواء. وبالطبع يجب إضافة الطعام إلى ذلك. حيث أظهرت لنا الكارثة الصحية أهمية الماء للحفاظ على صحتنا. كما أظهرت الدراسات أن الهواء الملوث يسهم بصورة ما فى زيادة عدد المرضى. وأظهرت دراسات أخرى أهمية التهوية الطبيعية ومشكلة الأماكن سيئة التهوية الطبيعية، وطالب العديد بالابتعاد عن التهوية الميكانيكية أو ما يعرف بتكييف الهواء.
كيفية التعامل مع تلك الأساسيات تستدعى إعادة التفكير فى كيف أن التصميم بالمطلق (سواء معمارى، عمرانى، أو منتجات) هو إحدى الأدوات الرئيسيّة للتعامل مع الأنظمة والأماكن التى يعيش فيها الإنسان، والتى هى بطبيعتها معقدة، سواء كانت مدنا أو قرى صغيرة أو كبيرة على البحر أو النيل أو حتى فى الصحراء أو مؤسسات للصحة أو التعليم أو غيرهما. للتعامل مع تلك الأنظمة التى لا تستطيع التحكم بها والسيطرة عليها يمكنك أن تصمم استجابات تتعامل معها ثم تحسن من التصميم عندما يتوافر لك القدر الكافى من المعرفة والبيانات. ويمكن للتصميم أن يتيح لنا تقبل الأضرار الممكنة وتعظيم النواتج الإيجابية على البيئة وكل الكائنات التى تعيش فيها وطبعا منها الإنسان.
التصميم ليس للأشياء المادية فقط ولكنه أيضا للسياسات والأدوات التى تستطيع رسم خطة طريق لإحداث الآثار الإيجابية. ويتطلب التصميم الجيد الاعتماد على الابتكارات التى تمكن من استخدام أقل مدخلات لإحداث التغييرات أو التحولات التى يمكن أن تأتى بالأثر المطلوب.
***
يجادل دان هيل، مصمم ومبدع ومحاضر فى عدة جامعات فى أستراليا وإنجلترا، بأننا نحتاج أن ننتقل من الإغلاق التام إلى مرحلة يسميها «الإبطاء» والتى تمكننا من مراجعة الإيقاع السريع والزائد عن الحاجة الذى نعيش فيه والذى أدى لإنتاج كوارث عدة منها التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى وغيرهما. وربما يسمح لنا هذا الإيقاع الجديد فهم مقدار تعقد النظام الطبيعى الذى نعيش فيه (نحن الآن طبقا للعلماء فى عصر الإنسان أو الأنثروبوثين) وتصبح قضية حجم التدخلات البشرية فى هذا النظام الطبيعى مهمة للغاية.
ينظر علماء البيئة والكثير من الباحثين وآخرون مثلى بشك كبير وربما ارتياب للمشروعات الكبرى لما يمكن أن تخلفه من تأثير سلبى كبير على البيئة وعلى حياة الإنسان. وأصبح الكثيرون الآن يدعمون التدخلات الصغيرة المدروسة بدقة فى إطار النظام المعقد بحيث يمكن تعظيم مردودها الإيجابى. وأصبح أحد الطرق التى يروج لها لصياغة تلك التدخلات الصغيرة بالصورة التى تساعدها أن تكون أكثر استدامة ما أصبح يعرف باسم التدخلات المرتكزة على الطبيعة والتى من أمثلتها فى مصر الآن استعادة الكثبان الرملية بصورة طبيعة فى شمال الدلتا للمساعدة فى وقف النحر والحماية من التأثيرات المحتملة للتغير المناخى.
يدعونا هذا أيضا، وبالذات مع وضوح وترسخ قيمة الحياة الإنسانية كواقع وحقيقة لا يمكن استبدالها أو تقييمها بالمال وليست فقط كفكرة فلسفية، إلى مراجعة الأفكار الاقتصادية القائمة على إنتاج وتعظيم الأرباح وتظهر فى المقابل الأنشطة الاقتصادية الهادفة لحياة كريمة للبشر جميعا فى نفس الوقت التى تقوم فيه بحماية الطبيعة. وبدأت بعض تلك الأفكار التى أراها مهمة للغاية تتبلور فى صورة طرح واضح كما فى حالة مدينة أمستردام. حيث فكرة الازدهار حلت محل الأفكار التى تركز على نمو الناتج المحلى الإجمالى وجوهر تلك الخطة تساؤل مركّب عن كيف يمكن تحقيق آمال السكان فى مكان معين فى إطار مسئوليتهم عن صحة وسلامة كامل الأرض التى نعيش عليها؟
وفى هذا السياق الذى لا يخص بالتأكيد العمارة والعمران فقط يظهر أيضا أهمية تجنب التركيز على التفكير قصير الأمد لصالح التفكير طويل المدى، لأن حجم التحديات والمدة اللازمة للمجهود المطلوب لمواجهتها يتطلب التزاما طويلا ربما يتعدى مدى الجيل إن كنا جادين فى إنقاذ ليس فقط الأجيال القادمة المباشرة ولكن أنفسنا أولا.
***
نحتاج حوارا عاما يناقش الأفكار المطروحة والممكنة فى سياقنا بكل جدية ووضوح ونأمل أن يضع مثل هذا الحوار بداية للوصول إلى اقتراحات عملية نستطيع تنفيذها مع الوضع الاقتصادى والبيئى والعمرانى الراهن. ولا يمكن أن تغنى دراسة الخبراء عن النقاش العام، ورأينا كيف أن استعداد وقدرات شعب ما اكتسبها من خلال نظام التعليم والثقافة أثرت بشكل كبير فى تقليل النتائج السلبية (اليابان مثلا) التى حدثت فى بلاد أخرى. أعرف تخوف المسئولين لدينا من النقاشات العامة ولكن أيضا هناك فرصة جيدة للغاية لأن يقود العلماء النقاش ويحاورهم الآخرون لأننا جميعا لدينا الحق فى المعرفة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved