حلا شيحة.. قضية وطن

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 23 يوليه 2021 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

من الواضح والبَّين أن الأزمة التى أثارتها حلا شيحة هى عَرَض لمرض يعانى منه كثيرون فى بلادنا، بل أزعم وبلا مبالغة بأنها مشكلتنا القومية المعاصرة فى مصر، بل أتجرأ وأجزم أنها مشكلة الوطن العربى ككل. والمسألة ببساطة ــ عزيزى القارئ ــ أننا نحتاج إلى إعادة التفكير وبجسارة فى بعض مُسلمَاتنا حتى لو اجتزنا طرق صعبة ووعرة. ومن أهم هذه القضايا الفكرية الملتبسة هو عدم التفرقة بين مصطلحى «الأمة» و«الشعب».
وتظهر هذه المشكلة على السطح عندما نحاول الحديث عن معالجات سياسية وفكرية واجتماعية وعملية؛ فتعريف الأمة هى صورة الجماعة الوطنية عبر الزمن (التاريخ)، لكن تعريف (الشعب) هو صورة الجماعة فى المكان والزمان المعاش هنا والآن (الواقع). وبالعودة إلى التاريخ نلاحظ أن حديث عبدالناصر كان دائمًا عن الأمة العربية أكثر بكثير من حديثه عن الوطن والشعب المصرى، ونفس الأمر كان الحديث فى سوريا والعراق عن الأمة العربية أكثر بكثير عن استخدام أسماء البلدان؛ العراق وسوريا. ولعلك تذكر أيضًا ــ عزيزى القارئ ــ كيف تنازل عبدالناصر عن اسم مصر وتنازل شكرى القوتلى ــ رئيس سوريا ــ فى ذلك الوقت عن اسم سوريا، وهكذا تحول اسم البلدين مصر وسوريا معًا إلى (الجمهورية العربية المتحدة). وبداية من تلك اللحظة عشنا زمنًا طويلًا نتحدث عن أهمية الأمة العربية الواحدة، سواء من بعد إعلان الوحدة مع سوريا، أو حتى من بعد الانفصال عنوة من الجانب السورى، وأصبحنا لا نتحدث عن (نحن) المصريين، أو (نحن) السوريين، وهذا الالتباس سبب لنا أزمات هوية متعددة وما زال.
وعلى الرغم من أن الأفكار الأممية الصحيحة تعنى أن كل أمة تتمسك بهويتها الخاصة؛ التاريخ واللهجة والعادات والتقاليد المشتركة.. إلخ، وهذا بالطبع لا يمنع الحوار أو العلاقات مع الدول الأخرى، وهذا هو النموذج الذى تبنته دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ما حدث مع العرب كان العكس، وذلك بتبنيهم فكرة القومية العربية. فما زلنا نردد أفكار الحرب العالمية الأولى والثانية، تقليدًا لفكرة القومية فى الغرب، والتى انتهت هناك بلا رجعة، أما فكرة القومية فى الشرق «القومية العربية» فقد سقطت بنكهاتها المختلفة البعثية والناصرية والصدامية.. إلخ ولم يعد لها وجود. وقد أنجزت هذه الحركات العروبية الوحدوية ما كان أصحابها يأملون، لكنها سقطت من التاريخ، وتم تجاوزها وذلك ليس بسبب نقص فى الإرادة أو خيانة للتاريخ والوطن إطلاقًا، فلا يستطيع أو يجرؤ أحد باتهامهم بذلك، لكن سقطت بسبب خطأ الفكرة تاريخيًا، ذلك الأمر الذى لا نستطيع تجنبه، وهذا يُعتبر نموذجًا لمن تجاوزه التاريخ دون أن يدرى. وقد حدث وبقوة صادمة للإخوان المسلمين، فقد وصلوا للحكم فى مصر فى غير زمانهم، لذلك سقطوا بسهولة شديدة عند الشعب، وهو نفس ما يحدث الآن فى إيران (وحدة المذهب). وهذه الفكرة (وحدة المذهب) ليست بقادرة على تقديم حلول واقعية لما تواجهه الشعوب من مشكلات لأنها لم تستطع أن تفرق بين صورة الأمة المتخيلة وغير الواقعية فى هذا العصر من جانب، وبين مطالب وآمال الجماعات المختلفة والمتعددة المنطوية تحت علم واحد فى بقعة جغرافية واحدة (الوطن) من الجانب الآخر.
أما الآن فقد تطور المجتمع الدولى واعترف من خلال نصوص دستورية وممارسات الشعوب والوطن على الأرض، أى المكان الجغرافى المحدود والذى لا يعترف بالأمة لأنه ببساطة تعريف الأمة ــ كما ذكرنا ــ هو مفهوم عابر للزمن وقد تغير الزمن كله، ولم ينتبه هؤلاء جميعًا الذين ذكرناهم آنفًا ومعهم الذين تصدوا لقضية حلا شيحة بما فيهم المؤيدون والمعارضون، أن ما يناقشونه من أفكار هى من خارج العصر ومسيرة التاريخ، ومما زاد الأمر التباسًا أن الحكام لم يلتفتوا إلى أهمية بناء مؤسسات تؤمن وتؤسس رسالتها على قوانين حديثة للدولة الوطنية، والتى كانت تحتاج إلى عمل جَدى لصهر مكوناتها العرقية والدينية والمذهبية والطائفية والقبلية والإثنية، ليس ذلك فقط بل خلطت شعاراتها أيضًا بين القومى والأممى والدينى، هربًا من الاستحقاق الوطنى بزيادة الجرعة للهوية الوطنية وذلك عن طريق بناء مؤسسات حديثة ونظام رشيد.
•••
لقد استمعنا إلى أصوات فى قضية حلا شيحة يتضح منها ترسب كثيف فى الثقافة المسيطرة، وفى أغلبها ثقافة أفكار معالم العصر والتى تقفز على الواقع من الماضى، وهذه الثقافات كلفت شعوبا عربية أثمانًا باهظة فى الحريات والتنمية بسبب هذا الالتباس. وعلى سبيل المثال لا الحصر لو لم يكن هناك التباس لما فقدت السودان نصف أراضيها وكل ثروتها، وأيضًا لما كانت مغامرات القذافى لصرف ثروة ليبيا فى جنوب ليبيا الصحراوى وعلى مغامراته لكى يصبح «ملك ملوك أفريقيا» بعد أن أفلس من مسمى «أمين القومية العربية» الذى دغدغ به عقله البسيط، وهو ما انطبق على باقى الزعماء مثل صدام حسين الذى سيطر عليه شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، فقام باحتلال بلد عربى عضو فى الأمم المتحدة بهدف تحقيق الوحدة العربية، وقتها زحفت نخبة من الإخوان المسلمين مقادين بفكرة الأممية وأولها القومية لمباركة العمل الذى قام به صدام، وقد بُرر الأمر بعدها بأن ذلك هو الطريق لقيام «الأمة الإسلامية»، كما ردد بعد ذلك «حسن الترابى» فى السودان، ولا أزيدكم علمًا وخجلًا بما فعله حافظ الأسد فى غزوه للبنان لتحقيق وحدة الأمة العربية.. إلخ. وكل هذه الحركات بُنيت على الدعوة أو الإعلان بازدراء الوطن المحلى والاشتباك السياسى والعسكرى جريًا وراء السراب الذى من المستحيل الوصول إليه، وهكذا دفعت وتدفع الشعوب تكاليف غالية تتحملها إلى حد الجوع والموت كما يحدث اليوم فى لبنان أو اليمن أو العراق. وهنا علينا أن ندرك أن التغلب على تلك الأفكار والمفاهيم وتغييرها ليس بتلك السهولة لأنها رسخت لدى عدد واسع من الشرائح من دون توقف لنقد نتائجها الكارثية، فهذا التيار الكارثى غزا المناهج التعليمية مما أدى إلى تشتت الولاء الوطنى بين محلى وإقليمى بل وحتى عنصرى. وأولى خطوات التغيير هو النظر إلى المكان أو الدولة التى يجب أن تحتضن الدولة الحديثة، وهو فى الغالب آخر مكان تنظر إليه معظم السلطات القائمة أو تفكر فيه، وكذلك أهمية دراسة تكوين الهوية الوطنية الجامعة، وهذه أيضًا لها أدوات أصبحت معروفة كإعادة النظر إلى مناهج التعليم.. إلخ.
•••
بالعودة إلى قضية حلا شيحة والاستماع إلى ما تقوله فى الدفاع عن موقفها، والإصغاء إلى موقف والدها من ناحية وموقف النقابة بل وموقف تامر حسنى وهل من المعقول أن يُصَّرح هذا الفنان بأنه لا يتمنى أن يموت وهو يغنى؟! هذه التوليفة ينطبق عليها المثل الشعبى (سمك لبن تمر هندى). هنا سوف نجد ونكتشف أن مصر دولة حديثة لكن فى نفس الوقت نجد مصر أيضًا أمة، والدولة الحديثة تعانى من استعمار الأمة لها والتى تحاول مسح هويتها، إن مصر تتمزق بين الثقافة الشمولية ثقافة الحرب العالمية الثانية، وثقافة العصر، وهذا هو الفارق بين أمريكا وأوروبا والدول الحديثة من جانب، وبين وطننا العزيز مصر من جانب آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved