سميح ودرويش:قصة توأمين

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 23 أغسطس 2014 - 7:20 ص بتوقيت القاهرة

أخذته رجفة اللقاء الذى لا يقوى على تحمله، يعرف أنها تنتظره هناك حيث بيتها وبيته والأيام التى ولت.

اتكأ ابن الجليل على عصاه متقدما بخطى متعثرة إلى أحضانها وسجل اللحظة الإنسانية الأكثر ألما فى واحدة من أروع ما كتب «خذنى معك».

«..تسأل صارخة دون صوت وتسأل أين أخوك؟».

«تزلزلنى أمنا بالسؤال؟ فماذا أقول لها؟».

لم يكن ما أنشده «سميح القاسم» فى وداع «محمود درويش» تخيلا شعريا بقدر ما كان تجربة حقيقية عليها شهود وتسجيلات.

ضمته «حورية» إلى أحضانها وهو بين دموعها يرثى عمره. بالكاد سمع صوتها الذى أنهكته السنين فقد كانت فى الرابعة والتسعين من عمرها عندما فجعت فى رحيل «الغالى» على ما كانت تنادى ابنها وماتت بعده بنحو عام.

طرحت أسئلة الفراق وأجابت عليها زجلا وهو لا يدرى ماذا يقول لـ«أمه» «أمنا».

«قولوا لأمى الله يصبرها.. وعلى فرقتى ما أقوى جبايرها».

كانت تحفظ الأزجال والتهاليل الفلسطينية ولديها موهبة استثنائية فى ارتجالها كأنها تتنفسها.

ألهمت «محمود» ذائقة الشعر وروحه عندما كانت تتلوها على مسامعه طفلا صغيرا فى الأمسيات البعيدة وإلهامها امتد إلى صديقه «سميح».

«تذكر رضا الوالدة

لأُمَّين فى واحدة

ونعمة كبَّتِها.. زينة المائدة

وطهر الرغيف المقمَّرْ»

كأنه يتحدث عن أمه بذات المشاعر التى حملها ابنها بالدم وتماهت الصور مع ما رسمه «درويش» فى دواوينه للأم الملهمة.

هاتفتها مرتين، كانت تستمع بصعوبة وتتحدث بخفوت ومشاعرها تأثر من يحادثها.

نشرت «العربى» بعض أزجالها على أوقات متباعدة طلبا لإنارة جوانب مجهولة أمام حركة النقد الأدبى، فأثر «حورية» أكبر من أن يكون جملة عابرة فى التجربتين الإنسانية والإبداعية لـ«درويش» وحضورها فى روح قصائده طاغ.

لم يكن لـ«سميح» أى دور فى النشر من قريب أو بعيد، لا اقترح الفكرة ولا عرضناها عليه والملف كله تولته الصحفية الفلسطينية «صابرين دياب» التى تربطها علاقات صداقة بأحفاد «الست حورية».

مع ذلك فإن هناك شكوكا وهواجس تملكت عددا من المثقفين المصريين الذين تربطهم علاقات صداقة مع «درويش» فى أن النشر «مؤامرة» نسج خيوطها صديقه اللدود قاصدا النيل من ملائكية «حورية» بنسبتها إلى عوالم الزجل كأنها تهمة وجريمة.

كان جمالها فى حقيقتها وولاء «سميح» لها كولاء «محمود»، استدعوا الشكوك وغضوا الطرف عن الطريقة التى كتب بها عن «أمنا».

أوقف النشر لوقف الاتهام الظالم لـ«سميح» ولم يحادثه أحد فى ذلك أبدا.

الشكوك والهواجس من طبيعة العلاقة الفريدة بين أكبر شاعرين فلسطينيين فى العصر الحديث كأنهما «شطرى برتقالة» كما عنونا مراسلاتهما المتبادلة التى نشرت فى الثمانينيات.

أحدهما بقى فى الوطن المحتل والآخر استقر فى الشتات.

تجربة «درويش» أخذت زخما إضافيا من إطلالته على العالم انعكست على بنية قصائده وروح التجديد فيها.

بدا سفيرا فوق العادة للقضية الفلسطينية أمام الضمير الإنسانى، فهو صوتها المسموع والمتحدث باسم عذاباتها غير أنه حاول إلى أقصى طاقته إثبات أن شاعريته لا تلخصها أناشيد الحماسة.

فى الوقت نفسه تأثرت تجربة «سميح» بوقع أقدام الاحتلال على الحياة اليومية محاولا أن يوجد عالمه الخاص ويطور تجربته الشعرية بما اسماه «السربيات» التى تزاوج بين أشكال إبداعية مختلفة كأسراب الطيور التى قد تختلف ألوانها لكنها تمضى معا فى وجهة واحدة.

فى التجريب الشعرى كان لكليهما رأى غير معلن فيما يذهب إليه توأمه، فـ«حبيبنا محمود تأثر بأكثر مما هو لازم بتجارب شعرية مشرقية أخرى» على ما استمعت إلى «سميح» فى زيارته القاهرية الأخيرة.

لاحظ حرصه أن تسبق رؤيته النقدية كلمة «حبيبنا».

التوأمة الشعرية والإنسانية لا تلغى التمايز ولا تمنع التنافس وخروجهما من نبع واحد لا يعنى أنهما على القالب نفسه.

انتسبا إلى تجربة سياسية وحزبية واحدة واكتشفا بالتوقيت نفسه عمق التزامهما بالعروبة وبدا «جمال عبدالناصر» فى الستينيات المبكرة مثلا أعلى يلهم وظلا على الاعتقاد ذاته حتى نهاية العمر. أخلصا للقضية الفلسطينية وجسدا مع رفيقهما الثالث «توفيق زياد» ظاهرة شعراء الأرض المحتلة التى كانت اكتشافا مذهلا أقرب إلى عوالم السحر فى لحظة ألم وومضة يأس بعد هزيمة (١٩٦٧).

برحيل «سميح» انفرط العقد الفريد كله وبدا الضمير الفلسطينى فى حالة انكشاف.

لا أحد يتحدث باسم جراحها وكلامه يلهم أهله ومحيطه وعالمه.

بصدمتى «النكبة» و«النكسة» بأقل من عقدين كشفت فلسطين عن مخزونها الإنسانى والحضارى فى مبدعيها الكبار كـ«راشد حسين» و«فدوى طوقان» و«معين بسيسو» و«إميل حبيبى» و«غسان كنفانى».

الأخير بوزنه الروائى كان أول منصة مسموعة أشارت من بيروت إلى ظاهرة شعراء الأرض المحتلة الذين بزغوا بعد نكسة يونيو وكانت المنصة الثانية هنا فى القاهرة حيث قدم الناقد الكبير «رجاء النقاش» الظاهرة ذاتها إلى مصر وعالمها العربى كله.

عندما يقال شعراء الأرض المحتلة فإن اسمى «محمود درويش» و«سميح القاسم» يتصدران الذاكرة كأنهما توأم ملتصق وتجربة واحدة وعلم واحد على العذاب الفلسطينى، والثانى لحق الأول إلى الموت فى تمام الذكرى السادسة تحت قيظ أغسطس.

عالمهما تداخل بصورة مثيرة فى روح القصيدة، فـ«درويش» الذى كتب «سجل أنا عربى» و«عابرون فى كلام عابر» هو نفسه «سميح» الذى كتب «رسالة إلى غزاة لا يقرأون» فى يناير (٢٠٠٩) بعد الحرب الأولى على غزة ووجدت طريقها إلى الصفحة الأولى فى «العربى» قبل أن تنشر فى صحف الأرض المحتلة ذاتها.

«تقدموا.. تقدموا

كل سماء فوقكم جهنم

وكل أرض تحتكم جهنم».

كل ما هو عميق مشترك فى التجربة الشعرية وكل ما هو إنسانى متجذر فى الذاكرة.

رغم ذلك فإن الشكوك لا تغادر مكانها كأنها لعنة مقيمة والهواجس تطرح نفسها بمناسبة أو غير مناسبة.

«سميح» فى مرثيته لـ«درويش» يشرح بلغة الشعر ما تعجز اللغة الأخرى أن تلم بعمق الجذور والتباس الوقائع.

«لأنا صديقان فى الأرض

والشعب والعمر والشعر،

نحن صريحان فى الحب

والموت.. يوما غضبت عليك..

ويوما غضبت على

وما كان شيء لديك وما كان

شىء لدى».

«وما أنت كسرى ولا أنت قيصر

لأنك أعلى وأغلى وأكبر

وأنت الوصية

وسر القضية».

فى كليهما حيرة المعذبين:

«تعبت علمت جهلت سألت أنا هملت أم سميح؟».

كان يمكن لـ«محمود» أن يكتب البيت نفسه بالصدق نفسه واضعا اسمه بدلا من اسم رفيقه.

كلاهما حاول أن يحيا كريما على نفسه ورأسه منتصبا لأن فلسطين رغم عذابها لا تحنى رأسها.

«منتصب القامة أمشى

مرفوع الهامة أمشي

فى كفى قصفة زيتون

وعلى كتفى نعشى».

كأن «سميح» أنشد لحياته وموته معا وأنشد لتوأمه الشعرى والإنسانى بما تمناه لنفسه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved