رحلة العمر.. مع السفير الريدى

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 23 أغسطس 2019 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

ولد فى قرية وادعة على ساحل المتوسط فى الثلاثينيات من القرن الماضى، وهى عزبة البرج، شهد تحولات القرية الكبرى، كما شهد تحولات مصر والعالم العربى الكبرى.
كانت قريته لا تعرف الكهرباء وتعتمد سفنها على الشراع وتصل به إلى موانئ تركيا والشام، ويأتى الفيضان فى كل عام حاملا الطمى إلى البحر فى أغسطس ومعه السردين، وأسراب طيور السمان المهاجرة والبلح على النخيل.
كانت رأس البر التى تقابل قريته يتم تركيبها وتفكيكها كل عام، كل ذلك تغير، فلا الفيضان أتى بعد السد العالى، ودخلت الكهرباء البيوت وعملت السفن بالموتور وغزت الخرسانة المسلحة بيوت رأس البر، وكما بدأت حقبة جديدة فى قريته البسيطة بدأت كذلك فى مصر كلها.
فى مقتبل شبابه رأى مصر تودع حكم أسرة محمد على الذى استمر 150 عاما وتدشن النظام الجمهورى عقب ثورة يوليه 1952.
أثناء وجوده فى القاهرة مع رحلة مدرسته «دمياط الثانوية» هزهم حادث اغتيال أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء، كان هذا بداية الإعصار الذى هز مصر حتى وقعت ثورة يوليه، والذى تلاه مظاهرات الطلاب على مفاوضات صدقى ــ بيفن عام 46، ثم قرار تقسيم فلسطين عام 47 الذى كانت له تداعياته الخطيرة، ثم اغتيال النقراشى باشا عام 48، ثم اغتيال مرشد الإخوان حسن البنا، ثم اتفاقية الهدنة 49، ثم مجىء وزارة الوفد، وبدء عمليات الفدائيين وإلغاء معاهدة 36 عام 50، ثم حريق القاهرة عام 52، ثم ثورة يوليه فى نفس العام، والتى كانت كل هذه الأحداث تمهد لها.
كان وقتها فى منتصف دراسته بحقوق القاهرة، ساقته الأقدار إلى السلك الدبلوماسى المصرى ليصبح من أهم فرسانه، فقد صادف وقت تخرجه فى الحقوق فتح الثورة لأبناء الشعب للعمل فى المجال الدبلوماسى على أساس الكفاءة وتكافؤ الفرص والنجاح فى امتحان المسابقة.
عندما التحق بالخارجية عام 55 كان هذا العام تحديدا عام انطلاق الدبلوماسية المصرية فى عهد ناصر، بعد حل قضية السودان عام 53 وجلاء بريطانيا عن مصر عام 54، وكان هذا العام هو الذى بزغ فيه نجم الزعيم الجديد ناصر من خلال مؤتمر باندونج، كواحة لمن يسعى للسلام بعيدا عن الأحلاف، وهو نفس العام الذى اختاره بن جوريون لمهاجمة الجيش المصرى فى غزة متحديا النظام المصرى الجديد وزعيمه الشاب، وهذا هو الذى دفع ناصر لشراء الأسلحة من المعسكر الاشتراكى وبداية سوء العلاقات مع أمريكا.
التحق السفير الريدى بعد عدة أشهر من عمله إلى بعثة مصر لدى الأمم المتحدة ويوم تسلمه للعمل أعلن عن صفقة الأسلحة التشيكية لمصر.
شهد معركة السويس «العدوان الثلاثى عامى 57,56» كانت أولى حروب مصر ناصر مع إسرائيل، كانت كل حرب تجر إلى الأخرى حتى جاءت حرب 73 فجعلها السادات آخر الحروب وأنهى مسلسلها اللا نهائى باتفاقية كامب ديفيد.
مثل انتصار مصر سياسيا فى حرب السويس بداية النهاية للاستعمار وأعطى دفعة هائلة لشعوب العالم الثالث وازدهار فكرة القومية.
وقفت أمريكا إلى جوار مصر، وكان من المنتظر بعدها أن تترسخ العلاقات بينهما ولكن مصر أخطأت الطريق، وانحازت إلى المعسكر الاشتراكى دون سبب ظاهر فخسرت الكثير بسبب ذلك.
لم تمر عشر سنوات حتى وقعت كارثة 67 التى تعد بداية النهاية للعصر الناصرى، جاءت حرب أكتوبر لترد لمصر اعتبارها ويصبح السادات بعدها بطل مصر السبعينيات.
عمل الريدى كثيرا مع محمود رياض وهو وزير خارجية مصر، ثم الأمين لجامعة الدول العربية، ومع الزيات كذلك.
العمل الدبلوماسى فى حقبة السادات كان مشحونا بالمشاعر الإنسانية المتقدة والمعقدة، تحدث عن أحلامه وجيله وكيف أخذهم ناصر تارة إلى الذرى وأحيانا أخرى إلى القاع.
انتقل السفير الريدى إلى باكستان وكأن الأحداث تلاحقه حيثما حل فوقع الاجتياح السوفيتى لأفغانستان وتحولت باكستان إلى بؤرة نشاط سياسى وعسكرى وشهد الرجل كيف دربت أمريكا «المجاهدين العرب» لحرب الاتحاد السوفيتى وإجباره على الرحيل من أفغانستان، وكيف تفكك الاتحاد السوفيتى ثم انقلب السحر على الساحر فقام بعض هؤلاء «المجاهدين» بضرب أمريكا فى عقر دارها فى أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من تحولات جسام أدت إلى ضياع العرب ووحدتهم، وضياع نفوذ المثلث العربى الذهبى «مصر والسعودية وسوريا».
يرى سفيرنا المتفرد فى تاريخ الدبلوماسية أنه طوال تاريخ مصر الحديث كانت علاقة مصر بالقوة الأكبر فى العالم هى أهم العوامل التى تؤثر عليها إيجابا وسلبا، وأنه حسبما كان الحاكم فى مصر يدير علاقاته مع القوى الكبرى عامة والأكبر خاصة كان نجاحه أو فشله فى ضمان الخير والاستقرار لمصر.
وفى عصرنا الحديث أمريكا كانت وما زالت القوة الأكبر التى يجب علينا أن نتعامل معها، ويرى أيضا «لم يكن هناك رئيس أمريكى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلا وأثر على مصر بطريقة أو بأخرى سلبا أو إيجابا».
«ترومان أول رئيس اعترف بإسرائيل وساندها فى حرب 48، وأيزنهاور حاول أن يجد حلا عادلا لمشكلة فلسطين ووقف ضد العدوان الإسرائيلى، أما جونسون فكان ضالعا فى التآمر علينا فى حرب 67، ونيكسون وقف مع إسرائيل فى حرب 73 ولكنه استجاب لدعوة السادات لإنهاء الحرب ووزير الخارجية كيسنجر هو مهندس فترة ما بعد حرب 73، أما كارتر فهو شريك السادات فى كامب ديفيد لإحلال السلام رغم ميله لإسرائيل.
أما ريجان وبوش الأب فكانا الرئيسين الأمريكيين فى فترة عمل سفيرنا الريدى، حينما تبوأ أهم منصب فى الخارجية، وهو سفير مصر فى أمريكا. ريجان أحاطت به مجموعة من المغامرين فى مجلس الأمن القومى ألحقوا به العار فى فضيحة إيران كونترا.
أما بوش الأب فهو على نقيض ابنه تماما، ودعا مبارك إلى البيت الأبيض قبل أى رئيس آخر، وكان يريد تحقيق السلام فى الشرق الأوسط لولا الخطيئة الكبرى لصدام بغزوه للكويت رغم تحذير مبارك المتكرر له، مما أدى لصرف الأنظار عن الاحتلال الإسرائيلى إلى الاحتلال العراقى للكويت، وبداية مرحلة التمزق المزمنة بين العرب، والتى لم يخرجوا منها حتى اليوم.
سطر هذا الدبلوماسى المصرى العريق مذكراته حتى عام 2010 ولم يكتب شيئا بعد هذا التاريخ حيث ترك العمل الدبلوماسى نهائيا ليتجه إلى العمل المدنى، ويقود واحدة من أكبر المكتبات فى الشرق الأوسط مكتبة مبارك العامة ثم مكتبات مصر العامة، ويشيد مع مجموعة رائعة مجموعة من أرقى المكتبات فى تاريخ مصر الحديث يقودها بطريقته العلمية وحكمته الإنسانية.
كانت هذه لمحات من بعض ما سطره فى كتابه الشهير «رحلة العمر» حيث يعد من أطول السفراء المصريين فى أمريكا «8 سنوات».
تحية للسفير عبدالرءوف الريدى الذى أكن له كل حب وتقدير على المستوى الشخصى والإنسانى والمهنى كرجل شريف ونظيف ومتميز ومخلص من رجالات مصر، وأمد الله فى عمره، وبارك فى أسرته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved