أنتيك.. حضور عابر

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 23 سبتمبر 2017 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

وجوده فى الممر بعد أن انحدر به الحال وانتقل من الصالون إلى المساحة المربعة التى تصل بين الغرف الداخلية للشقة حيث نقيم من أكثر من عشرين عاما، جعلنا نسير يوميا أمامه، دون أن يلحظ أحد وجوده أو يلتفت إلى الزجاجات الكثيرة التى تراكمت فوقه. حتى حين يغرق البيت فى ظلام دامس يعرف هو موقعه.. ثابت لا يتحرك، ولم يتحرك من مكانه، منذ أن سكنا هذا البيت. «باهو» فرنسى من خشب الورد، مزين بالحليات والعرائس النحاسية البارزة، ينطق اسمه بشد البوز إلى الأمام، كأننا نعطش الحرف الأخير على الطريقة الفرنسية، وهو يحيلنا مباشرة إلى وقت كانت الخزانات المختلفة يشار إليها بتسميات أجنبية دراجة بيننا، مثل «الكومودينو» وهى كلمة إيطالية خالصة تعنى منضدة غرفة النوم.

اشترى أبى قطعة الأثاث القديمة من محل أنتيكات فى محيط شارع القصر العينى ومجلس الوزراء بنحو أربعين جنيها، قبل أن يتزوج أمى، وظل «الباهو» معه من شقة إلى أخرى، إلا أنه بالطبع كان له حيوات أخرى قبل أن يلازمنا. سمع الكثير من الأكاذيب، على الأقل بحكم موقعه إلى جوار التليفون، ورأى بعض ما جرى لنا. وربما رأى ما لم نر، وسمع ما لم نسمع. صامد على رجليه المستقيمتين. لا أعرف هل كان يفضل أن يكون فى بيت يعشق أصحابه تغيير أماكن الأثاث، أم أن هذا الثبات من حسن حظه، إذ أكسبه ركوزية واستقرارا؟ الشىء الوحيد المؤكد فى نظرى هو أننى رأيته بعينى عدة مرات فى أفلام مصرية قديمة، لمحته فى الخلفية، قابعا كعادته، له حضور خاطف، فى بعض مشاهد السينما، للأسف لا أتذكر أى فيلم، لكن على ما يبدو كان شاهدا على الأحداث فى فيلم لسعاد حسنى... هل كان هو نفسه أو نسخة طبق الأصل، أم يخلق من الشبه أربعين، كما نقول؟ لا أدرى. لكن قطعا عرف مصر فى ظروف أفضل، فهو بمثابة شاهد على العصر، وخزانة للذكريات، شكلا وموضوعا، أكسبه حضوره الهادئ شيئا من حكمة السنين.

***
عندما اكتشفت وجوده فى أفلام الأبيض والأسود، راودتنى فكرة مؤقتة ورغبة فى تتبع حيواته السابقة، لكن بالطبع كان أمر مستحيلا، فليس من السهل أن أعرف ما إذا كان من قطع أثاث البيوت المؤممة أو شقق الأجانب الذين رحلوا عن مصر بعد حرب السادس والخمسين، إلى ما غير ذلك.. فقط استوقفنى تاريخ وحكايات الأشياء اليومية فى حياتنا، بعضها مثلنا لها ماضى، وبالنسبة لآخرين لها طاقة داخلية خاصة تلك المصنعة من مواد طبيعية كالأخشاب، لذا يردد الكثيرون ضرورة معرفة أصل الشىء القديم قبل امتلاكه، ويدللون على ذلك بأمثلة الأقنعة الأفريقية التى ربما اشتريناها كتذكار سياحى، لكنها صنعت بالأساس لغرض آخر ارتبط بالسحر والشعوذة والطقوس الدينية التقليدية أو يروون حكاية تخص قريبة لهم أصابتها لعنة خاتم قديم، فلازمها سوء الحظ وعدم التوفيق منذ أن وضعته فى أصبعها. 

***
روح الأشياء وحضورها قد تظل أمورا غامضة، فهى لا تبوح بأسرارها، بل تحفظها داخلها، ولا تشى بمكنونها سوى لمن يتوقف وينتظر ويهتم بتفاصيل كل ما حوله. فى الفولكلور اليابانى هناك اعتقاد سائد بأن الشىء أو الجماد قد تدب فيه الحياة وتصبح له روح، إذا ما تعدى عمره المائة عام، بل ويقال أيضا إن بعض الأشياء تحمل ضغينة للبشر حين تهمل أو يتم تخريبها، وبالتالى تقام طقوس خاصة لتفريغ ما بداخلها من غضب. هل لنا أن نتصور حجم الغضب المكتوم داخل الأشياء القديمة الكثيرة فى مصر التى يتعامل معها بإهمال والتى صارت نادمة على اليوم الذى خلقت فيه أو وجدت مصادفة بهذا البلد الفريد؟ الشعور حتى بالجماد نعمة، فى زمن التبلدو الأنانية المفرطة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved