فرنسا أو «قوة التوازن»: هل من دور جديد

ناصيف حتى
ناصيف حتى

آخر تحديث: الإثنين 23 سبتمبر 2019 - 11:05 م بتوقيت القاهرة

تنشط الدبلوماسية الفرنسية كوسيط فى ملف العلاقات الصدامية الأمريكية الإيرانية المتصاعدة وهو أكثر الملفات سخونة وتعقيدا فى منطقة الشرق الأوسط من حيث تداعياته المباشرة واللاحقة فيما لو لم يتم التعامل معه بنجاح: سياسة أمريكية قائمة على أقصى درجات الضغوط مع الاستعداد للتفاوض إلى جانب هذه الضغوط ورفض إيرانى للتفاوض طالما لم تعد واشنطن إلى احترام تعهداتها حسب الاتفاق النووى المعروف باتفاق 5+1. أمام هذه الضغوط وسياسة العقوبات الأمريكية بدأت إيران بخطوات الخروج التدريجى من التزاماتها حسب الاتفاق النووى. فرنسا تحاول وقف التصعيد الأمريكى مقابل عودة إيران إلى التزاماتها والعمل على منح إيران «هدية تشجيعية» لذلك قوامها خط ائتمان مالى لم تنجح حتى الآن فى اعتماده. الاستراتيجية الفرنسية التى تعترف أنها لم تحدث اختراقًا حتى الآن ولكنها لم تفشل كليا تحاول إيجاد مخرج لكل طرف حتى لا يبدو وكأنه قام بتنازل قاسٍ أمام الآخر. تعمل فرنسا على ترتيب لقاء قمة بين الرئيسين ترامب وروحانى على هامش الدورة القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة لتأمين الاختراق المطلوب. صحيح أن كلا من الطرفين لا يريد الحرب ولكن استمرار التوتر يدفع ويشجع على الحروب بالوكالة المنتشرة ويزيد من الحرائق فى بؤر الصراع فى الشرق الأوسط. إن النجاح الفرنسى فيما لو حصل سيعنى تخطى الموضوع النووى رغم أهميته الاستراتيجية، كموضوع أساسى للخلاف، لينعكس إيجابيا أيضا على الصراع بين الطرفين فى النقاط الساخنة الأخرى بين حلفائهما، الأمر الذى سيسهل الولوج للتفاوض فى هذه النقاط الممتدة من اليمن إلى سوريا. إقالة مستشار الأمن القومى الأمريكى جون بولتون يحمل مؤشرا عن ابتعاد ترامب عن شعارات بولتون بضرورة تغيير النظام فى إيران. ويعتبره البعض أمرا مشجعا لحصول مرونة أمريكية أكثر من ضرورية.
الدبلوماسية الفرنسية أيضا ذهبت باتجاه موسكو من خلال إحياء صيغة 2 زائد 2 المتوقفة منذ سبع سنوات، وهى صيغة اللقاء التشاورى بين وزيرى الخارجية والدفاع للبلدين وقد عقد الاجتماع المعنى يوم الاثنين فى التاسع من هذا الشهر والهدف تعزيز وتعميق التشاور والتعاون حول القضايا الرئيسية على الصعيد العالمى بين الطرفين. القمة الفرنسية الروسية نهاية الشهر الماضى هيأت الأرضية لعقد هذا اللقاء ولفتح صفحة جديدة من العلاقات مع موسكو واحتواء التوتر مع بروز فرصة لحل «النزاع الأوكرانى الروسى» الذى كان يسمم الأجواء الأوروبية الروسية. هذه المبادرات الفرنسية عكست الرؤية التى قدمها الرئيس الفرنسى فى خطابه فى 27 أغسطس أمام السفراء الفرنسيين وهو الخطاب التقليدى الذى يلقيه الرئيس سنويًّا فى هذا اللقاء. الرئيس الفرنسى قدم تعريفًا لما يجب أن تكون عليه سياسة بلده ورؤيته للتحديات العالمية والغربية التى يجب التعاطى معها. يرى ماكرون أن على فرنسا أن تكون قوة توازن تقوم بدور ناشط فى الأزمات الكبرى وفى النزاعات ويعتبر أن النظام العالمى فى تركيبته وفى سماته قد تغير كليا وأننا أمام ثنائية قطبية تتبلور فى العالم وتضم الولايات المتحدة والصين الشعبية. ويرى أنه خطأ استراتيجى كبير دفع روسيا بعيدا عن أوروبا. ويدعو لبناء هيكل أمنى فى أوروبا وبناء مناخ من الثقة وتندرج فى هذا الهدف المطلوب علاقات تعاون مع روسيا. ماكرون يطرح تعزيز الاتحاد الأوروبى وبلورة «سيادة أوروبية» وهو تحدٍ كبير فى مرحلة انتشار الأزمات فى أوروبا وحالات الضعف والارتباك التى تواجه مسار البناء الأوروبى، يدعو لبلورة سيادة أوروبية فى مجالات عديدة فى لحظة انتشار التيارات الشعبوية التى تعتبر أن عدوها الرئيسى ومصدر المشاكل التى تواجهها دولها يكمن فى العمل الأوروبى المشترك.
الرئيس الفرنسى يعتبر أن المعالجة الناجحة للتحديات الوطنية يستدعى تعزيز التعاون الأوروبى وبلورة أدوار ومهام جديدة للاتحاد الأوروبى ويمثل ذلك تحديا كبيرا فى لحظة تشهد فيها فرنسا أزمة اقتصادية اجتماعية مزدوجة فى البيت الوطنى وكذلك فى البيت الأوروبى.
يعتبر ماكرون أنه لا يجب أن تكون فرنسا منحازة لأحد رغم أنها عضو فى الأسرة الغربية ويشير إلى وجود اختلاف فى القيم والأولويات ضمن الحلف الغربى بين الولايات المتحدة من جهة وأوروبا من جهة أخرى رغم الانتماء إلى المعسكر الواحد. المثير للاهتمام أيضا فى رؤية الرئيس الفرنسى أنه دعا لحوار شامل مع الضفة الجنوبية للمتوسط: حوار يتناول التحديات المشتركة، وما أكثرها، وبالتالى إلى بلورة شراكة جديدة مع المتوسط ومع أفريقيا.
قد يقول البعض إنها مجرد عناوين وتمنيات ولكن يمكن بأى حال البحث فى بلورة إستراتيجية دولية جديدة وفاعلة فى عالم ملىء بالتحديات إذا لم تكن هنالك رؤية واضحة وشاملة ومعها إرادة حازمة للانخراط بشكل مختلف وناشط فى التعامل مع هذه التحديات، فهل تنجح فرنسا فى بلورة إستراتيجية ناشطة وطنية وأخرى أوروبية على الصعيدين الإقليمى والدولى للتعامل بفعالية مع هذه التحديات الجديدة والمتجددة والتى تتطلب أعلى درجات التضامن والتعاون بين جميع القوى المعنية. هذا هو السؤال. إنها سباحة عكس التيار كما يرى البعض ولكنها تبقى ضرورية لمنع الغرق كما يطرح الرئيس الفرنسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved