ولا حد تالتنا

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 23 سبتمبر 2020 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

على الراديو فقرة أغانى قديمة كل يوم، كثيرا ما تصاحبنى أثناء تنقلى فى السيارة، ففى السيارة أستمع إلى الراديو ولا يملى على أحد من أطفالى أغنية بعينها ولا يطلب منى أن أسحبها من على شبكة الإنترنت. فى السيارة إذا يعطينى الراديو كل يوم هدية على نغمات أغنية أو أكثر يتوقف معها الكون من حولى. أقود السيارة وأدندن وأتخيل نفسى فى سيارة مكشوفة على طريق يصل بين القاهرة والعزبة كما كنت أراها فى الأفلام القديمة.
***
يدخل عبدالحليم إلى السيارة فى يوم مكتظ بالالتزامات المهنية والعائلية، يجلس فى المقعد الأمامى قربى ويفتح الشباك. يغنى «أهواك» فتنتقل السيارة إلى كوبرى قصر النيل متجهة إلى حى الزمالك فى القاهرة. أنا ما زلت أجلس خلف المقود إنما تغير شكلى وها أنا أرتدى فستانا وأرفع شعرى بتسريحة لا أعرف كيف ثبتها وأنا أقود.
***
هنا فى السيارة يتحول عالمى إلى عالم السينما فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى. أستقبل نجوما لطالما فتنونى فى طفولتى فأعدت مشاهدة أفلامهم مرات ومرات حتى حفظت كثيرا من مقاطعها قبل أن أفهمها. العالم هو مصر كما أزورها فى مخيلتى ومن خلال حديث بعض الأصدقاء هناك ممن عاشوا فترة الأفلام تلك وممن أكدوا لى مرارا أن تلك الفترة كانت كما فى الأفلام، بأشخاص يشبهون فى أشكالهم وكلامهم وتصرفاتهم فاتن حمامة وعبدالحليم حافظ. ها هم فى سيارتى يتبادلون كلمات الحب بعيدا عن عيون جمهورهم ويقدمون لى هدية الجلوس قربهم والاستماع إليهم شريطة ألا أتدخل.
***
لن أتدخل أصلا فأنا أكاد أن أتوقف عن التنفس من فرط سعادتى بهدية لم أتوقعها تفتح أمامى طريقا فوق النيل فأقود سيارتى عبر تمثالى الأسد على طرفى كوبرى قصر النيل. مدخل الزمالك لوحة فنية، النيل على يمينى ويسارى والمراكب الصغيرة تنتظر من يطلب رحلة سريعة عند الغروب. أنوار الحى صوت عبدالحليم كفيلة بأن تنسينى شحنات متراكمة من الغضب الذى يتراكم فى قلبى منذ سنوات. غضب من السياسة وغضب من الامتيازات التى رسخت للظلم وعدم المساواة، غضب من الفقر وقلة التقدم، ومن ما أراه تحجرا للعقول بغض النظر عن مستوى التعليم. هو تحجر لا يهمنى أحيانا أن أفند أسبابه، عندى كمية من الغضب أرميها فى النيل على مدخل حى الزمالك حين يجلس بقربى فى السيارة فجأة محمد عبدالوهاب ويغازل جميلة من جميلات زمن أدخله بسيارتى من عمان حيث أعيش بفضل راديو يبث أغانى ذهبية قديمة.
***
الولع بالقديم قد يكون ردا على بشاعة الحاضر. قد يقول العقل أن القديم بات أكثر رومنسية بسبب بريق وبساطة وقلة التعقيد فى طرح بعض القضايا وتعمد عدم التطرق لغيرها. أتساءل إن كان جيل عبدالحليم وماجدة وأحمد رمزى ينظر إلى أجيال سبقته بالطريقة ذاتها وإن كانوا يتمنون أن ينتموا إلى زمن سبقهم كما أتمنى أنا. هل ينظر كل زمن إلى سابقه بعين التمنى وقلب مثقل بالشجن؟ أم أن خيبات الخمسين سنة الماضية تراكمت بشكل لم يعد يسمح بالحلم؟
***
أنا فى السيارة فى عمان أنتقل بلحظة إلى كوبرى قصر النيل. أدخل فى جسد شخصية سينمائية وأشترى لنفسى دقائق من السعادة الطفولية فأتمايل مع الموسيقى وأنظر أمامى لأرى فنادق القاهرة الفخمة تعكس أنوارها على وجه النيل. أشتاق جدا لقاهرة أظن أننى التقطت آخرها قبل أن أفقدها شيئا فشيئا. هى قاهرة رأيت آخر معالمها فى بداية علاقتى معها، قاهرة تعرفت فيها على أشخاص مازال لهم ركن فى الأفلام القديمة فقد عاصروا أحداثا شبيهة بالأفلام وأكدوا لى أنها كانت حقيقية.
***
سحر القاهرة تلك يجتاحنى وأنا أقود سيارتى فى عمان متجهة إلى موعد عمل أو للقاء صديقة فأشعر أن قلبى قد يخرج من مكانه ليركض إلى كوبرى قصر النيل ويتركنى هنا فى سيارتى دون قلب! يقدم لى الراديو بضع دقائق من حنين لا ينتهى إلى قاهرة رأيت آخر معالمها حين عشت فيها إنما حفظت شوارعها وتعابير ناسها من أفلام كررتها مرارا فى طفولتى فتهيأ لى أننى يوم أصل إلى مصر سوف ألتقى بأحمد رمزى وسعاد حسنى فى الشارع لأسترق السمع إلى كلمات الحب التى يتبادلونها.
***
هكذا، يهدينى الراديو دقائق ذهبية فأغنى «أنا وأنت ولا حد تالتنا أنا وأنت أنا وأنت وبس» دون أن أتذكر كيف تعلمت الأغنية ومتى سمعتها آخر مرة، لكنى أعرف أن مع أول النغمات تتحول سيارتى إلى سيارة مكشوفة وها أنا أرتدى فستانا ضيق الخصر ويجلس بقربى فريد أو عبدالحليم نسوق معا فوق جسر على مدخله تمثالان لأسدين من الرخام فوق النيل. قليل من الحلم وقليل من السذاجة والكثير الكثير من الحب رغم إدراكى لحجم الأذى الذى لحق بالقاهرة منذ أن غنى فريد «ولا حد تالتنا». فى تلك الدقائق، أنا مع قاهرتى تلك فى سيارة مكشوفة، أنا والقاهرة «ولا حد تالتنا».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved