ما بين الأخ الأكبر والإخوة الصغار

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الخميس 23 سبتمبر 2021 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

فى سنة 1949 صدر كتاب «1984» للكاتب البريطانى جورج أورويل وفيه يستطلع الكاتب المستقبل بعد خمسة وثلاثين عاما من نشر الكتاب فى العام 1984، ويرى أن التقنيات الجديدة التى تتيح التنصت والتتبع والسيطرة ستمكن الحكومات من فرض سيطرة كاملة على المواطنين والمواطنات وسيسود العالم نظام ديكتاتورى يملى قائده على الشعب والمواطنة والمواطن العادى إرادته بحيث يفقد الشعب حريته، وأطلق أورويل اسم الأخ الكبير Big Brother على الكيان المتحكم فى هذا المجتمع.
استخدمت رواية 1984 ورواية أورويل الأخرى «مزرعة الحيوانات» Animal Farm استخداما واسعا فى فترة الحرب الباردة ضد النظم الشمولية للكتلة الشرقية فى إطار حرب ثقافية وإعلامية تهدف إلى كسب العقول والانتماء. ومن المفارقات أن جورج أورويل كان فى شبابه شيوعيا حارب فى صفوف الشيوعيين والاشتراكيين ضد الفاشية أثناء الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، وقد تحول عن الشيوعية بسبب نفوره من كوميسرات الجيش السوفيتى الذين شاركوا فى الحرب وقد سجل ذكرياته عن الحرب فى كتابه الرائع Homage to Catalonia.
لم يكن أورويل هو الوحيد الذى صور المستقبل بقتامة محذرا من أثر التقانات الحديثة على البشر بل سبقه الكاتب البريطانى الآخر Aldous Huxley بروايته التى نشرت عام 1932Brave New World. تجرى أحداث الرواية أيضا فى المستقبل فى عام 2540 ميلادية ولكن فى التقويم السائد وقتها هو عام 632 بعد فورد «AF»، بعد أن تم استبدال التقويم الجريجورى بتقويم فورد وسنة الأساس فيه عام 1908 وهو عام إنتاج أول سيارة فورد Ford Model T على خط الإنتاج Assembly Line، الذى ابتكره رجل الصناعة Henry Ford، والذى يتحكم من خلاله فى كل حركات المواد والآلات والعمال. وتدور الرواية فى مجتمع تسيطر عليه قوى رأس المال التى تنظم كل شيء فى الحياة ويحول البشر إلى آلات للإنتاج مثل الروبوت.
نشرت الرواية فى وقت بزوغ الحزب النازى فى ألمانيا، واكفهر الجو الأوروبى فى الفترة السابقة على اندلاع الحرب العالمية الثانية ومن المرجح أن يكون الزج باسم هنرى فورد بشكل سلبى فى الرواية كان بسبب موقفه المساند لألمانيا فى الفترة السابقة للحرب وموقفه المعادى لليهود.
***
النظرة القاتمة للعلم التى تعكس الخوف من سيطرته على العالم بشكل خبيث هو امتداد لموجة سادت فى القرن 19 بدأها كتاب مارى شيلى «فرانكشتاين» الذى صدر عام 1818 عن العالم فرانكشتاين الذى أحيا جثة ميتة بتمرير تيار كهربائى خلالها، ورغم نجاحه فى إعادة الحياة إلى الجثة إلا أنها تحولت إلى مسخ شرير أثار الرعب أينما حل.
وكانت إطلالة عصر الكهرباء قد أشاعت مناخا من الطموح والخوف أثاره العلماء والأدباء. وصدر كتاب مارى شيلى فى نفس العام الذى أجرى فيه الطبيب الأسكتلندى Andrew Ure تجربته الشهيرة فى مدرجات جامعة جلاسجو فى حضور عدد من الأطباء والعلماء حيث مرر تيارا كهربائيا فى جثة مجرم أعدم شنقا، فانتفضت أعضاؤه وبدا ساعده ينقبض وينبسط. وتكررت التجارب وكان أشهرها تجربة الطبيب الإيطالى Luigi Galvani فى عام 1870 بتمرير تيار كهربائى فى جثة ضفدعة فقفزت من أثر الكهرباء.
أثارت هذه الأعمال الأدبية والتجارب المعملية مخاوف العوام واعتبرها البعض أعمالا شيطانية شريرة إلا أن العلم استطاع أن يرد اعتباره كنشاط إنسانى حميد بالتطورات التى حدثت فى النصف الثانى من القرن 19 والنصف الأول من القرن 20، خاصة مع اكتشاف المضادات الحيوية التى قضت على أمراض قاتلة مثل السل والأمصال التى قضت على شلل الأطفال وأشعة إكس، فضلا عن التبريد الذى أسهم فى حفظ الطعام من التلف ووسائل الاتصال والانتقال التى سهلت الحياة ووسائل الترفيه مثل السينما والتلفزيون.
عاد الخوف من العلم فى النصف الثانى من القرن 20 عقب الحرب العالمية الثانية خاصة مع ظهور القنابل الذرية وإسقاطها على هيروشيما ونجازاكى، وسباق التسلح خاصة فى المجال النووى فتضاعفت القوة التدميرية للقنابل الذرية فضلا عن وسائل نقلها بالصواريخ عابرة القارات والقاذفات الاستراتيجية بعيدة المدى خلال الحرب الباردة بشكل بات يهدد البشرية والوجود.
بدأت فى القرن 19 أيضا الحساسية والتخوف من أثر التكنولوجيا على الخصوصية والأسرار الشخصية وكانت بدايتها مع اختراع التصوير الفوتوغرافى على يد الفرنسى Nicéphore Niépce سنة 1826، ثم تطورت الكاميرا فصغر حجمها وزادت قدراتها بعدسات الـ Zoom المقربة والتصوير الليلى ثم التصوير السينمائى.
تبع ذلك اختراع توماس أديسون فى عام 1877 الفونوغراف وتسجيل الصوت على أسطوانات تلاها شرائط التسجيل وأجهزة التسجيل الصغيرة التى يمكن إخفاؤها بسهولة واستخدمت هذه التقانات فى انتهاك الخصوصية والأسرار ورأينا فى المسلسلات الأمريكية المخبرين الخصوصيين الذين يستأجرون لمتابعة وتسجيل الخيانات الزوجية لاستخدامها فى المحاكم وفى الابتزاز، ثم تطورت التقانات مع اختراع الكمبيوتر وعصر الفضاء والتجسس على الدول ورصد ملايين الخطوط التليفونية بواسطة الأقمار الصناعية وتصوير حركات الجيوش والأساطيل واتصالاتها، وحتى الأفراد بحيث انتهت أو كادت تنتهى الخصوصية العامة أو الخاصة.
***
كل هذه التطورات تعزز رؤية الأخ الكبير المسيطر التى أطلقها جورج أورويل، لكننا فى نفس الوقت أهملنا خطورة الإخوة الصغار بعد أن بات فى مقدور أى صبى حاصل على دبلوم اختراق حسابات العملاء فى البنوك وسرقة أرصدتهم، وبات فى إمكان عامل فى ورشة تليفونات نقل كل ذاكرة تليفونات العملاء وكشف أسرارهم، إضافة إلى تقانة الفوتوشوب التى تخلق أوضاعا غير حقيقية وتورط أبرياء فى أحداث لا علاقة لهم بها. لقد كبر الأخ الأكبر وتغول وبات لا يسعى إلى السيطرة على بلده فقط بل إلى السيطرة على العالم بأسره وهو يحقق نجاحات بسبب احتياج الدول النامية إلى التقانات الحديثة فيدخلونها إلى بلادهم من أجل التنمية فتكون حصان طروادة الذى يقتحم به الأخ الأكبر أسوارهم ويهدم استقلالهم.
العالم اليوم بات يعيش تحت مظلة التقانة السيبرانية التى تتحكم فى الاتصالات والبنوك والتجارة والاقتصاد والإعلام والأمن وصارت عقب أخيل الذى إن أصيب تهاوى وانهار الكيان بالكامل.
الكل مشغول بالأمن السيبرانى والكل يركز على الأخ الكبير إلا أننا بحاجة إلى تركيز مماثل على الإخوة الصغار بعد أن رأينا صبية صغار يخترقون مؤسسات هائلة فى قدراتها وإمكاناتها مثل البنتاجون ووكالة ناسا وبنوك ومؤسسات ائتمانية وإعلامية كبيرة. فعلينا أن ننتبه إلى أن الإخوة الصغار قادرون على فعل أضرار لا تقل عما يفعله الأخ الكبير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved