ادعاء الفقر.. أزمة شعبية

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 23 سبتمبر 2022 - 7:00 م بتوقيت القاهرة

كانت تسرد قصتها سردا محكما وكأنك أمام يوسف إدريس أو نجيب محفوظ، سردها مرتب غاية فى الدقة رغم أنها فى الغالب لم تنل حظا من التعليم، كانت تصطحب دوما واحدا من أطفالها فى العاشرة من عمره فيه شقاوة الدنيا وفرط الحركة، لا يجلس أبدا على مقعد، يتجول فى العيادة تارة عند فيش الكهرباء فننهره، أو عند الأجهزة الطبية فنصرفه عنها أو يحاول جذب الكتب من المكتبة أو يصعد بحذائه فوق السرير أو الكراسى غير عابئ باتساخها.
كانت القصص التى ترويها عن حياتها مأساوية ليس فيها شعاع أمل أو تفاؤل، لم تحمد الله يوما وهى تقص علىّ قصص حياتها البائسة، تناسق القصص وحسن ترتيبها لم يجعلنى أشك يوما فى صدقها.
تارة تحكى لى قصة وفاة زوجها المأساوية فأتألم لذلك دون أن أحاول تذكر مأساته فقصصها جميعا تكدر بحرا رقراقا.
شقاوة ابنها غير المألوفة كانت تجعل قدومها للعيادة نوعا من الكابوس، مع كل قصة مأساوية كنت أساعدها وأرسلها إلى زملاء أطباء ممن حولى ليساعدوها تارة بالمال أو العلاج أو غيرها.
كلهم لم يتقاضوا منها أجرا، وجميعهم تعاطفوا معها مثلى.
جاءتنى فى يوم من الأيام حزينة بائسة تكاد تبكى وهى تقول: ابنى بترت ساقه؟ كيف؟ مر الترام على ساقه فبترت فى المستشفى، قلت: وأين نحن من الترام، ليس هناك ترام فى هذه المنطقة استغربت الأمر جدا، قالت: ذهب إلى منطقة سير الترام فى غفلة منى.
رغم عدم منطقية الأمر لبعد منطقة سكنها عن الترام لكنى قلت لنفسى: هذا الولد شيطان حركى يفعل أكثر من ذلك.
واسيتها وقدمت لها ما استطعت من عون وقلت لها فى حماس حقيقى: لا تحزنى فإننى أعرف بعض الجمعيات الخيرية التى تقدم الأطراف الصناعية لمثل هذه الحالات مجانا، لم تبد اهتماما بالأمر، كانت مهتمة بما تحصله من نقود، وقد حققت هدفها وانصرفت.
بعد أسبوع أخبرتنى بعودته للمنزل، بعدها بأسبوع آخر جاءتنى باكية لتخبرنى أن جرح ابنها تلوث وأنه عاد للمستشفى ويحتاج لمضاد حيوى، وأن أخصائى الجراحة قال لها: لا بد أن يأكل فراخ بلدى، استغربت الأمر وقلت لها: ما شأن الجراح بالفراخ البلدى أو غيرها، الجراح شأنه المشرط والعلاج والغيارات، لكننى مررت الأمر قائلا لنفسى ربما تبسط الجراح معها لتهتم بطعامه.
فى أحد الأيام تأخرت عن موعد العيادة، كان الليل قد دخل فسرت فى الشارع الشعبى الذى لا يمت لاسمه بصلة «الزهور»، لا فيه زهور ولا رياحين، بل تكاتك عبثية ومحلات تحتل ثلثى الشارع وخناقات وشتائم وسب يومى للدين وبذاءات لا تكاد تنتهى مع فوضى عارمة فلا تكاد تصدق أنك فى مدينه عريقة مثل الإسكندرية، الآن تحسن وضع الشارع ولكن سلوك الناس لم يتغير.
فجأة وجدت ابنها أمامى بشحمه ولحمه يسير على قدميه، فركت عينى من الدهشة قائلا له: هل أنتَ بخير، وسليم قال: نعم، قلت له: تحرك أمامى فتحرك، قلت له: أسرع فى مكانك، فجرى أمامى مستغربا، إيه يا دكتور أنا سليم أمامك قلت: يعنى الترام لم يقطع قدمك؟ضحك قائلا: أول مرة أسمع بهذا، فجأة ظهرت أمه التى كانت تسير أمامه ولم تنتبه لحديثى معه لأنه كان يسير خلفها، ذُهلت لرؤيتى فى الشارع وجها لوجه مع ابنها: لم أتمالك نفسى قلت لها بصوت مرتفع وتلقائى: يا كذابة تقطعين ساق ابنك من أجل ملاليم، ما هذه النية السيئة، هل أنت أم بحق؟!
جاء عدد من أصحاب المحلات بشارع الزهور ذاهلين ماذا حدث يا دكتور، أول مره نسمع صوتك مرتفعا وغاضبا، حكيت لهم القصة قالوا: هذه السيدة مرت على كل محلاتنا بالأمس وادعت أن ابنها عنده سرطان الدم فجمعنا لها مبلغا من المال، وانصرفت، كلهم عنفوها لأنها تمنت لابنها السرطان والبتر من أجل عشرات الجنيهات، كلهم نظروا إليها باحتقار، كانت هذه آخر مرة أرى فيها هذه السيدة وابنها.
فكرت فى أمر هذه السيدة كثيرا، ربطت بين هذا النموذج وعشرات الآلاف الذين قدموا على معاش تكافل وكرامة الذى دشنهُ الرئيس عبد الفتاح السيسى فى بداية عهده لمساعدة الأسر المحتاجة، ولم تكن غالبية هذه الآلاف تستحق المساعدة وكانوا أغنياء، وكان بعضهم لديه المال الوفير، وكان بعض أقاربى وأصدقائى من موظفى البريد يعجبون وهم يصرفون المعاش لهؤلاء ولكنهم لا يملكون سوى الصرف، حتى فاض الكيل وانفضح الأمر وزاد الأمر عن حده، وعلم العامة والخاصة أن الفقراء الحقيقيين لم يصلوا للمعاش.
انتبهت الدولة بعد عامين حينما استيقظت على أمور كثيرة فتصرفت بسرعة وصححت الأمر بقوة حينما استدعت مباحث البريد هؤلاء الدخلاء الأغنياء وخيرتهم بين إعادة ما حصلوه زورا وبهتانا مع فوائده أو الذهاب للنيابة والسجن فدفعوا جميعا فورا دون إبطاء، وجدت أن هناك عادة ذميمة لدى البعض تتمثل فى رغبة الكثيرين فى تحصيل أى شىء يصرف لشرائح الفقراء والمحتاجين.
رأيت ذلك حتى فى الحج تأتى سيارة لتوزع أطعمة فيذهب البعض عدة مرات ويستلم، ثم يترك معظم هذا الطعام، وقد لا يجد بعض الحجاج شيئا.
أو تأتى سيارة لتوزيع مساعدات في الشارع فيتزاحم الجميع إلا الفقير الحقيقى الذى تأبى كرامته أن يُهان بين هذه الجموع، وكم رأيت بلطجية الأحياء الشعبية وهم يحصلون على معظم الغنيمة من سيارات الدولة وهى توزع كراتين الطعام فى الشوارع أول رمضان.
هذه الشكوى يكررها العاملون بالجمعيات الخيرية أن نهر الخير الحكومى أو الأهلى أو من الجمعيات الخيريةان نصفها يذهب ربما للمدعين حتى لجأت معظم الجمعيات الخيرية إلى مقابلة الحيلة بالحيلة والمكر بالمكر فلا تعطى أى فقير مهما كانت حالته أكثر من خمسين جنيها شهريا وبعضها لا يمنح أحدا نقودا خوفا من إنفاقها فى غير أوجهها، أو أن يكون للأرملة ابن مدمن أو عاق يستولى على هذه الأموال وكلهم لجأوا للمساعدات العينية التى لا تباع أبدا.
سلام على أهل العفة والعفاف وأهل «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَعَفُفِ».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved