«لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين» دروس من السيرة النبوية العطرة

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: السبت 23 أكتوبر 2021 - 9:57 م بتوقيت القاهرة

فى ظل الاحتفال بمولد النبى عليه الصلاة والسلام، ومطالبة فخامة رئيس الجمهورية وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر ــ فى خطابهما باحتفالات المولد النبوى الشريف (17/10/2021) ــ بتجديد الخطاب الدينى، يُلح علينا سؤال «هل النبى كان يحكم دولته بالشريعة، وبما أنزل الله عليه من القرآن الكريم، أم بالعقل وبالسياسة؟»، وللإجابة على هذا السؤال لابد من استعراض حياة النبى، ودراستها دراسة متأنية، فحياته عليه السلام تنقسم إلى مرحلتين: الأولى قبل بَعثته، والثانية بعد نزول الوحى عليه.
لم يكن النبى قبل بعثته شخصا غير معروف، بل على العكس كان شخصية مشهورة، ومؤثرة فى مجتمعه، وقد عُرِف بأنه «الصادق الأمين»، ولم تأتِ هذه التسمية من فراغ، ولكنها أتت نظرا لتفاعله مع المجتمع فى كثير من القضايا المهمة، ولعل أهمها هو اللجوء إليه عندما اختلفت القبائل حول من يرفع الحجر الأسود ليضعه فى المكان المخصص له عند إعادة بناء الكعبة، فلم يعترض أحد على تحكيمه، واستبشروا جميعا بمحمد بن عبدالله لما عُرف عنه من صدق وأمانة وحِكمة، ومن هنا نستطيع أن نؤكد أن «رجاحة عقل» النبى كانت هى الفيصل فى اقتناع ورضاء الجميع بتحكيمه فى قضية مقدسة يتصارع الجميع على الفوز بها رغم تعدد القبائل، هكذا كان التحكيم لصاحب «العقل» الراجح قبل نزول الوحى بكتاب الله!
وقد كان تحكيم «العقل» أيضا من جانب النبى عليه السلام حتى بعد نزول الوحى، وثبوت النبوة، هكذا فعل فى «صلح الحديبية» بين المسلمين وبين مشركى قريش، بمقتضاه عقدت هدنة بين الطرفين مدتها عشر سنوات، فعند كتابة بنود الصلح، دعا رسول الله على بن أبى طالب بأن يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» فى صدارة الاتفاقية، ولكن سهيل (ممثل المشركين) رفض وقال: «أما الرحمن، فما أدرى ما هو؟، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب»، فرفض المسلمون، وقالوا: «والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم»، ولكن النبى يأمر عليّ: «اكتب: باسمك اللهم»، وعندما أملى النبى على علىّ: «اكتب: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله»، فيعترض سهيل للمرة الثانية ويقول: «والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب محمد بن عبدالله»، ويرد النبى: «إنى رسول الله، وإن كذبتمونى اكتب محمد بن عبدالله»!
هذا درس واضح وجليّ يُعلمنا الفصل بين الدين والسياسة، ويُبين كيف تصرف النبى فى موقف سياسى، وكيف فصل بين الدين والسياسة، باعتباره زعيما سياسيا للأمة فى هذه اللحظة! ولو تخيلنا موقفا مماثلا الآن لأحد من الناس يوافق على رفض كتابة «بسم الله الرحمن الرحيم»، أو رفض الاعتراف بنبوة محمد عليه السلام، لطالب الناس جميعا بتكفيره، واعتبروه مُنكِرا لمعلوم بالضرورة من الدين، وطالبوا بقتله وتحليل دمه!
ومما سبق، نتعلم أن الدين والسياسة شأنان متباينان، ولكل منهما طبيعة مختلفة تتعارض مع الآخر، الدين ثابت، والسياسة متحرك أو متغير، فإذا جُمع بينهما كَسَر المتحرك الثابت؛ الدين مقدس والسياسة مدنس، فإذا مُزج طرف بالآخر تدنس المقدس، هذا ما يثبته العقل والمنطق وأحداث التاريخ فى كل عصور البشرية، وفى كل الحضارات والأديان، وما دون ذلك هو نوع من الوهم أو الجهل أو التضليل، هذا ما اتفق عليه كل المثقفين والعالمين بتاريخ البشرية وبحقيقة الأديان، الدين يُبيّن للإنسان عقيدته، ويُعلمه المبادئ الإنسانية الرفيعة، ويدعوه للالتزام بها، ولكن السياسة هى البراجماتية أو النفعية أو الميكيافلية.
•••
والشعارات التى تُرفع من حين إلى آخر هى مضللة، فهى من أجل دغدغة مشاعر البسطاء، فشعار «الإسلام دين ودولة» لا نعرف أصله ولا من أطلقه، وهو شعار خاطئ شكلا وموضوعا؛ لأن الإسلام جاء للقضاء على الدولة الدينية، والنبى عليه أفضل الصلاة والسلام لم يدع يوما فى غزواته أنه تلقى خطة غزواته من الله، ولكنها كانت كلها اجتهادات بشرية، فكان يلجأ إلى المحترفين فى شئون الحرب، وينزل على رأيهم كما حدث فى غزوة «الخندق»، وأخذ برأى الصحابى سلمان الفارسى عندما أشار عليه بأن يتخندق، فكانت نصيحة بشرية ولم تكن وحيا إلهيا، وقد انتصر النبى فى بعض غزواته، وهُزم فى أخريات، وكذلك من بعده كل الخلفاء الراشدين، كانت اجتهاداتهم بشرية تعتمد على العقل، وعلى الخبرة، فهما الحكم فى حروبهم وفى مناوراتهم السياسية مع الآخرين، وإذا كان الإسلام لا يوجد به رجل دين له صلة مباشرة مع الله كما فى الأديان الأخرى، فبالأولى ألا تكون له دولة دينية.
وكذلك شعار «الإسلام هو الحل»، رفعته جماعة الإخوان، ولم نر منه شيئا فى فترة حكمها سوى تقسيم الأمة وبث الفتنة فيها، واستغلال الفقراء والجهلاء بشعارات دينية مثل «غزوة الصناديق»!، وهى فى الحقيقة شعارات ظاهرها الإيمان، وباطنها الضلال والتضليل، فإذا كانت تدعو إلى تطبيق الإسلام فى المجتمع، فهذا معناه أن الدولة أو المجتمع يخالفان شرع الله فى تطبيقاتهما، ومن هنا يأتى تكفير سيد قطب ــ منظر الجماعة ــ للمجتمعات الحديثة، علما بأن الدولة فى كل تشريعاتها لا تخالف أصول الشريعة الإسلامية فى شيء، والمادة الثانية فى الدستور القديم والحديث تنص على عدم المخالفة.
وقد أثبتت أحداث الماضى والحاضر أن استغلال الدين لتحقيق مآرب سياسية تضر ضررا شديدا بالدين، وأن هدفها فقط هو سياسى ودنيوى بامتياز، وكان العام الذى حكم فيه مُوَظِفى الدين فى السياسة أكبر دليل على فساد فكرهم، وأعطوا أسوأ صورة عن الدين، ومازالوا مستمرين فى غيهم وبغيهم دون وعى بأحداث التاريخ، ينادون برفع المصاحف فى «رابعة»، الحدث الذى بث الفتنة والفرقة فى الأمة الإسلامية قديما، وقُتل فيها المئات من المسلمين الموحدين بالله، وكانت نقطة فارقة فى التاريخ جمعوا فيها بين الدين والسياسة، فكانت وبالا وعارا على المسلمين ولم يتعلموا منها!
و«رفع المصاحف» فكرة لجأ إليها المنهزمون فى معركة صفين (37هـ) بين الخليفة الراشد على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان، أوعز بها لمعاوية السياسى عمرو بن العاص ــ رضى الله عنهم جميعا ــ عندما تيقنوا من هزيمتهم طالبا تحكيم كتاب الله، علما بأن القرآن الكريم ليس به حل لهذه المشكلة السياسية التى نتجت عن مقتل الخليفة عثمان ابن عفان ــ رضى الله عنه ــ ولا يوجد فيه أى حل لأى مشكلة سياسية أخرى قديما أو حديثا، ولكن ــ للأسف الشديد ــ ابتلع الجهلاء الطعم السياسى، وأصبحوا خوارج عن صحيح وأصول الدين، وتفككت الأمة وحلت الهزيمة بالجميع حتى وإن انتصر فريق معاوية الذى استغل الدين فى السياسة!
وتعتبر دعوة «خلق القرآن» محنة ثانية كان لها تداعياتها الكارثية فى التاريخ الإسلامى، ففى حقيقة الأمر مفهوم «القرآن مخلوق أو قديم» هى فكرة فلسفية فى علم الكلام، تناولتها فرق كثيرة فى الإسلام على رأسهم «المعتزلة»، ولا تهم المسلم العادى الذى «يؤمن بما جاء من عند الله فى الجملة دون التفصيل»، وهذا هو مضمون فكر الإمام أبوحنيفة، كما أن الإيمان الحقيقى قائم على الاعتدال والتسامح، إذن هذه القضية تهم ــ على وجه الخصوص ــ المفسرين والمحللين للنص القرآنى، ومدى إمكانية التأويل فى نصوصه وتفسيراتها، ولكنها استُغلت لهدف سياسى أساءت به إلى سماحة الدين الإسلامى، فأضاعت نفوسا بريئة بالقتل والسجن والتعذيب.
وهذه المحنة كانت امتدادا للمحنة الأولى، نشأت فى عصر الخليفة العباسى المأمون بن هارون الرشيد (218هـ)، واستمرت مع المعتصم والواثق وحتى العام الثانى من حكم المتوكل (234هـ)، وهدفها سياسى بامتياز على الرغم من ظاهرها الدينى، لم يشأ طرفا الصراع تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية، فواقع الصراع كان بين السلطة الدينية فى هذا العصر، وكان يتزعمها الإمام أحمد بن حنبل والمُعارِضة لحكم المأمون وعصره الذهبى للمعتزلة، فكان الإمام أحمد يعمل على رد الاعتبار لمعاوية باعتباره صحابيا والدفاع عن كل ممارساته من غصب للحكم من على بن أبى طالب، ومن عنف وتعسف من خلال الأيديولوجية الأموية المرتكزة على «النظرية الجبرية» التى تدعى بأن ما حدث من معاوية هو «قضاء وقدر»، ولا ذنب لمعاوية فيه، وهو دفاع عن الدولة الأموية، وكان المأمون ومن لحقه يدافعون ويحافظون على الحكم وعن دولتهم العباسية.
•••
ونخلص مما سبق أن قضيتى «رفع المصاحف» و«خلق القرآن» قضيتان سياسيتان لا علاقة لهما بالإيمان أو بالكفر، ولا بتطبيق الشريعة من عدمه، الأولى كان يهدف بها معاوية عدم مبايعة على بن أبى طالب على الخلافة للاستئثار بها، والثانية كانت لتأمين الحكم المطلق لدى المأمون، والقضاء على كل المعارضين، فهو صراع بين الماضى والحاضر: بين الدولة الأموية المنتهية وبين الدولة العباسية الحاضرة فى هذا الزمان، إذا الحقيقة هى توظيف «الدينى» من أجل «السياسى» الذى استخدم أسوأ استخدام ولم ينتج عنه سوى الخراب والدمار والقتل والفرقة والفتن فى الأمة الإسلامية فى مختلف العصور، فهل من مُذكِّر أو من عاقل يفطن إلى خبايا ومكائد المضللين، ويُقِر بأن مبدأ «لا دين فى السياسة، ولا سياسة فى الدين» هو من أوائل الدروس النبوية فى الحكم لم يتنبه له المسلمون من بعده، فضلوا وأضلوا، وسفكوا دماء بعضهم البعض حتى يومنا هذا!

أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved