أزمة المناخ.. قضية سياسية كوكبية جديدة

دوريات أجنبية
دوريات أجنبية

آخر تحديث: السبت 23 أكتوبر 2021 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

نشرت مجلة فورين أفيرز مقالا للكاتب ستيوارت باتريك ترى فيه أهمية إعادة النظر فى مفهوم السيادة الوطنية لمواجهة أزمة التغير المناخى التى لا تقف عند حدود الدول.. نعرض منه ما يلى.

يشهد الكوكب حالة طوارئ بيئية، دفعت إليها شراهة البشر فى استخدام الوقود الاحفورى والموارد الطبيعية، فوصلنا إلى حالة تغير مناخى جامحة، وتدهور فى النظام البيئى، وموت بطيء للمحيطات.. الأرض تنهار، وبقاؤنا أصبح معرضا للخطر.
المثير للدهشة أن النظام العالمى متعدد الأطراف فشل فى الاستجابة لأزمة تغير المناخ. وعلى الرغم من تبنى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى تدابير لإبطاء الاحتباس الحرارى، لا يوجد ما يضمن الالتزام بما وضعوه من تدابير ووعود، ولم تشجع خطواتهم تلك الدول الرئيسية المتسببة فى الانبعاثات، مثل الصين والهند، على تقليل انبعاثاتهم، ولم تعالج أيضا الجوانب الأخرى للكارثة البيئية التى تلوح فى الأفق.
الأزمات البيئية لا تخضع للحدود السيادية. لذلك، حان الوقت لاتخاذ خطوات جريئة تتجاوز النظام الدولى المنقسم إلى 195 دولة مستقلة غير القادر على حل كارثة عالمية لا يمكن تجزأتها. يحتاج العالم إلى نقلة فى نوع سياساته وعلاقاته الخارجية، تنقل التعاون بشأن التهديدات البيئية المشتركة إلى مركز الصدارة. ولنطلق على هذه النظرة العالمية الجديدة «سياسة الكواكب». يجب على جميع الحكومات، بدءًا من واشنطن، اعتبار بقاء المحيط الحيوى مصلحة وطنية أساسية وهدفًا مركزيًا للأمن القومى والدولي ــ والتنظيم والاستثمار وفقًا لذلك.
سيتطلب التحول إلى «سياسة الكواكب» فهما جديدا ومشتركا لواجبات الدول ذات السيادة، والتزامات جادة بالتنمية المستدامة والاستثمار، ووجود مؤسسات دولية حديثة. وسيحتاج قادة العالم إلى تبنى أخلاقيات جديدة للإشراف البيئى وتحمل مسئولية حماية المشاعات العالمية. ستحتاج الحكومات والشركات والمجتمعات إلى تقدير رأس المال الطبيعى للأرض وحسابه بدلا من اعتباره أمرًا مسلما منه. وستحتاج الحكومات الوطنية إلى إصلاح وتقوية الأطر المؤسسية والقانونية للتعاون البيئى الدولى. وسيكون على الولايات المتحدة قيادة هذه المهمة؛ لأن هذه الجهود لن تؤتى ثمارها إذا لم تكن واشنطن فى مقدمتها.
•••
التأثير المدمر للنشاط البشرى على البيئة ليس سرا. كل عام يفقد العالم مساحة من الغابات الاستوائية بحجم كوستاريكا. اليوم، يواجه حوالى مليون نوع من النباتات والحيوانات خطر الانقراض على المدى القريب. جنسنا البشرى يعانى أيضا، حيث يواجه الملايين حول العالم انعدام الأمن الغذائى ونقص فى إمدادات المياه. إلى جانب ما نتعرض له من فيروسات جديدة خطيرة، ففى العقود الأخيرة وثق العلماء أكثر من 200 فيروس انتقل من الحياة البرية إلى البشر، مثل الإيبولا والسارس والكوفيد 19.
الأمور على وشك أن تزداد سوءا. فعلى الرغم من انخفاض معدل الخصوبة، لن يستقر عدد السكان حتى عام 2060 على الأقل، ومع زيادة نسبة الطبقة الوسطى حول العالم، ستزداد التوترات البيئية. وما نقوم به من نهب للكوكب، لا يجعله صالح للاستخدام الآدمى. ومع ذلك، لا تتعامل معظم الدول مع التحديات البيئية كأولوية، وينصب اهتمامها على التنافس الجيوسياسى والسيطرة على الأسلحة والتجارة الدولية. النتائج يمكن التنبؤ بها: ما يتم تمريره لإدارة أزمات البيئة العالمية هو خليط من الاتفاقيات الضعيفة الخاصة بقطاع معين والتى تشرف عليها هيئات ضعيفة وغير قادرة على إنفاذها. يعتمد مصير الكوكب إلى حد كبير على خليط من التعهدات الوطنية غير المنسقة المدفوعة باعتبارات سياسية واقتصادية محلية قصيرة الأجل.
تتطلب الأزمة البيئية العالمية طريقة حكم جديدة تدرك أن مصلحة كل الدول تعتمد على تحقيق محيط حيوى صحى ومستقر. هذا الإطار لن يتخلى عن المفهوم الأساسى للمصلحة الوطنية ولكنه يوسعها ليشمل الأمن البيئى والمحافظة عليه. قد يتراجع اتباع السياسة الخارجية التقليديين عن إعادة الصياغة تلك، قلقين بشأن تشتيت انتباه الدبلوماسيين ومسئولى الدفاع عن التهديدات التى أثرت بشكل مباشر على بقاء الدول عبر التاريخ. لكن الأزمة البيئية غيرت طبيعة تلك التهديدات.
يبدو أن الرئيس الأمريكى جو بايدن يدرك هذه الحقيقة، عندما أعلن بعد أسبوع من تنصيبه أن تغير المناخ يمثل تهديدًا من الدرجة الأولى للولايات المتحدة ووجه بتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحرارى والتكيف مع الواقع الجديد. بعد ثلاثة أشهر، أخبر أفريل هينز، مدير المخابرات الوطنية الأمريكية، قادة العالم المجتمعين فى مؤتمر افتراضى للمناخ أن تغير المناخ «يجب أن يكون فى قلب الأمن القومى والسياسة الخارجية لأى بلد».
الكلام بالطبع سهل، لذلك يجب على إدارة بايدن أن تبدأ فى تطبيق هذا النهج الجديد، وأن تعمل مع الكونجرس على مراجعة ميزانية الأمن القومى الأمريكى التى لا تزال موجهة نحو التهديدات الجيوسياسية والعسكرية التقليدية، وتتعاون مع الشركاء الأجانب لخلق استجابة متعددة الأطراف لإبطاء وعكس الانهيار البيئى.
•••
إذا كانت الولايات المتحدة جادة بشأن قيادة الاستجابة العالمية لحالة الطوارئ البيئية، فعليها أن تبدأ بالعمل مع الدول الأخرى لإعادة صياغة المفهوم التقليدى للسيادة. لا يوجد مثل هذا الإجماع اليوم، كما اتضح من الخلاف الذى اندلع بين الرئيس البرازيلى جاير بولسونارو والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى عام 2019، حين اجتاحت الحرائق غابات الأمازون. اتهم ماكرون بولسونارو بـ «الإبادة البيئية» من خلال السماح باستغلال أكبر غابة فى العالم من قبل قاطعى الأشجار الجشعين ومربى الماشية والمزارعين وعمال المناجم. انتقد الزعيم البرازيلى الغاضب نظيره الفرنسى واتهمه بمعاملة البرازيل كما لو كانت «مستعمرة أو أرض بلا صاحب».
هذا التصادم نتج عن تعريف مفهوم السيادة بطريقتين: الأولى تبنتها البرازيل فى أن سيادتها لا يمكن التفاوض عليها، والثانية تبنتها فرنسا التى رأت أن بقاء غابات الأمازون هى مصلحة الجميع. الجدل الأساسى، كما أشار ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، هو ما إذا كان ينبغى اعتبار البرازيل «مالك» الغابات المطيرة أو مجرد «الوصى» عليها. ولكن قادة المجتمعات عليهم إدراك أن السيادة الإقليمية لا تمثل شيكا على بياض لنهب الموارد الجماعية. ومفهوم السيادة خاضع للتفاوض والتكييف المستمر.
بموجب المبدأ الدولى الحالى المعروف باسم «قاعدة عدم الضرر»، فإن الدول ذات السيادة لديها بالفعل التزام بعدم الإضرار بالبيئة فى المناطق الواقعة خارج نطاق سيادتها. لكن هناك إجماع ضئيل على ما يشكل بالضبط ضررًا بيئيًا عابرًا للحدود. هذه الأسئلة أصبحت أكثر تعقيدًا مع تعقد الأسباب المسببة للضرر. لذلك، يجب على الدول توسيع تعريف الموارد المشتركة التى تتم إدارتها كجزء من التراث المشترك للإنسانية لتشمل جميع النظم البيئية والدورات الطبيعية. ويجب أن يوافقوا على التخلى عن الأنشطة التى تهدد سلامة الكوكب، والسماح للآخرين بمراقبة امتثالهم والتحقق منه، ومواجهة عقوبات فى حالة انتهاكهم لهذا الالتزام.
تتطلب حماية هذه المشاعات البيئية وضع ثمن على الطبيعة. ومع ذلك، فإن معظم دعاة حماية البيئة يقاومون وضع قيمة نقدية على الطبيعة. لكن عدم القيام بذلك يشجع الشركات والأفراد على سوء استخدام الطبيعة. والمشكلة أيضا أن الناتج المحلى الإجمالى، وهو المقياس التقليدى للثروة والتقدم، لا يأخذ فى الحسبان رأس المال الطبيعى. يجب على المجتمع الدولى العمل على تطوير مقاييس تأخذ فى الاعتبار الأصول البيئية. أصدر ما يقرب من 89 دولة، بما فى ذلك جميع أعضاء الاتحاد الأوروبى، حسابات رأس المال الطبيعى لتتبع هذه الأصول وتعزيز الشفافية فيما يتعلق باستخدامها. يجب على الحكومات أيضًا اعتماد اللوائح وإنشاء حوافز للشركات لتحمل التكاليف البيئية لسلوكها، بدلا من تمريرها إلى المجتمع.
•••
لا يمكن لأى سياسة أن تنجح بدون المؤسسات المتعددة الأطراف والحوكمة العالمية التى يمكن أن تعزز التعاون الدولى الذى تتطلبه أزمات المناخ المتشابكة والتنوع البيولوجى. الأولوية هى سد الفجوة بين عملية التفاوض المتقطعة التى تستضيفها الأمم المتحدة والواقع الذى حددته الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ التابعة للمنظمة، والتى تتنبأ بكارثة احترار عالمى ما لم يتخذ العالم خطوات فورية ودراماتيكية للحد من ظاهرة الاحتباس الحرارى. التجارة مجال آخر يجب أن تنظمه الحوكمة العالمية. قد يكون أحد المسارات هو إصلاح قواعد التجارة العالمية للتمييز بين الدول الملتزمة بإزالة الكربون والدول التى تصر على الممارسات المعتادة. نماذج التنمية سوف تحتاج أيضا إلى التغيير، فالدول الفقيرة تحتاج إلى دعم الشركاء الدوليين للتوصل إلى سياسات وهياكل تحفيزية تشجع الجهات الفاعلة والمجتمعات على الحفاظ على الطبيعة.
حالة الطوارئ البيئية العالمية تمثل أعظم تحدٍ تواجهه البشرية فى إطار العمل الجماعى، وإعادة خلق توازن فى علاقة البشر بمحيطهم الحيوى سيتطلب تحولا جوهريا فى تصور شكل السياسات الخارجية، وسيتطلب أيضا إعادة النظر لدورنا على الأرض.
لن تذهب السيادة الوطنية إلى أى مكان، ولكن اتباع نهج دولى جديد يمكن أن يساعد فى إغلاق الفجوة بين السياسة والطبيعة. إذا لم تستطع أزمة بهذا الحجم جعل الدول تعيد صياغة مصالحها القومية، أو طرح تعريف جديد للأمن الدولى، أو إعادة النظر فى الاقتصاد العالمى، فلن يكون هناك شيء آخر يدفع تجاه ذلك.

إعداد: ابتهال أحمد عبدالغني
النص الأصلى هنا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved