عندما أصبح الألمان أجانب في ألمانيا - سور برلين وأنا (٨)

حسام السكرى
حسام السكرى

آخر تحديث: السبت 23 نوفمبر 2019 - 11:20 م بتوقيت القاهرة

(سلسلة مقالات في الذكرى الثلاثين لانهيار سور برلين)

الطابور طويل. أنتظر دوري لمشاهدة هذه الشقة الصغيرة في برلين الغربية. الكل يريدها. واحد فقط سيفوز بها. المدينة مزدحمة بالطلاب والمهاجرين. مشروعات الإسكان محدودة والعرض أعلى من الطلب بكثير. قرأت كغيري إعلانا عن هذه الشقة في صحيفة "تسفايته هاند" (Second Hand) لإعلانات البضائع المستعملة والمساكن.

دلفنا إلى الداخل. قبل أن أدير عيني في المكان ارتفع صوت أجش: "ماذا تفعل هنا؟". التفتت ورأيت رجلا ضخما يقترب. وجه أحمر متورد وعينان زرقاوان ونظرة بين السخرية والاحتقار. هو ممثل صاحب البناية على ما يبدو. "ليس للأجانب ما يفعلونه هنا. أخرج حالا". صعقتني المفاجأة فخرجت. لحقني شاب من الواقفين. اعتذر بحرارة عن هذا السلوك العنصري الفج.

لم تكن هذه تجربة وحيدة مع العنصرية في الغرب قبل انهيار السور أو بعده. أذكر مرة أخرى انضممت فيها إلى قافلة بحث طبي تجمع البيانات عن مستويات الكوليسترول عند الألمان. كنا نقف في الأسواق بسيارة تشبه سيارات الإسعاف نجري التحاليل ونعطي إرشادات. في أحد المرات وجه لي سكير فاصلا من السباب لأنني أجنبي. دفعه آخرون بعيدا وتكرر مشهد الاعتذار ممن تصادف شهودهم الواقعة.

في الوقت ذاته من عام 88 كان الأجانب من شرق أوروبا يعاملون بشكل مختلف ومنهم ماتشك البولندي الذي كان يدرس الألمانية معي في معهد جوتة. لم يلفت نظري إلا بعد أن لاحظت أنه اجتذب اهتمام زميلتنا الفاتنة الدنمركية هيجا. أعجبت كغيرها من الفتيات بوسامته وبنيته الرياضية، والغموض الذي أحاط بكيفية هروبه من بولندا ووصوله إلى برلين. فاز بها وصارا صديقين حميمين. عرفت بعدها أن ماتشك لم يدفع ماركا واحدا من تكلفة الكورس التي تزيد على الألفي مارك، كما أنه يقطن في سكن مجاني منحته إياه الحكومة إضافة إلى تقاضيه مرتبا ثابتا، وتمتعه بتأمين صحي وخدمات مختلفة لتأهيله وإدخاله سوق العمل.

لا أعلم على وجه التحديد إن كان ماتشك من الألمان البولنديين أم لا. إذ كان لهؤلاء وضعية خاصة. فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 اقتطع الحلفاء أجزاء من حدود ألمانيا في الشرق وتم ضمها لبولندا. بعض الألمان طرد وبعضهم حصل على الجنسية البولندية. دستور ألمانيا الغربية كان يسمح لأي مواطن ألماني "سابق" باستعادة جنسيته وحقوقه إذا استطاع أن يثبت أنه كان يقيم داخل حدود ألمانيا القديمة، وبناء عليه كان يعاد توطينه في ألمانيا الغربية إذا نجح في دخولها.

لم يمر وقت طويل قبل أن يتغير هذا كله. اجتاحت عواصف التغيير الدول الدائرة في فلك الاتحاد السوفييتي السابق. تلاشت الحدود والحواجز إلى أن انضمت بولندا لاحقا للاتحاد الأوروبي في 2004 وإلى منطقة شنجن.

بدلا من "ماتشك" واحد تدفق عشرات الآلاف شوارع برلين الغربية وأسواقها حاملين معهم بضائع الشرق: كاميرات روسية، ساعات، نظارات مكبرة، ومخللات، وسجق، ومغزولات صوفية، وقبعات، وأحذية. ملأوا الأسواق الشعبية وافترشوا الطرقات. أقبل الألمان على بضائعهم الرخيصة صباحا، وطاردوهم في الشوارع مساء بدعوى تسببهم في قذارة المدينة. تغيرت النظرة إلى البولنديين وأهل الشرق عموما.

خبرتي المباشرة بالعنصرية في أوربا علمتني أنها لا ترتبط بجنس أو لون أو دين بقدر ما ترتبط بشعور بالخطر وتهديد في الرزق. هذا هو الوتر الذي لعب عليه اليمين المتطرف في شرق ألمانيا وأوربا بعد انهيار السور بسبب المشاكل الاقتصادية التي خلقها التباين الحاد في سياسات العمل والتنمية.

لازلت أذكر وجه سيدة قلقة في لقاء تليفزيوني بعد انهيار السور وهي تتحدث عن أبناء جلدتها من ألمان الشرق الذين تدفقوا نحو الغرب: "إنهم مختلفون عنا تماما. حتى رائحتهم مختلفة"!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved