شرعية البرلمان المقبل
محمد سعد عبدالحفيظ
آخر تحديث:
الأحد 23 نوفمبر 2025 - 7:35 م
بتوقيت القاهرة
منذ أن عرفت مصر الحياة النيابية قبل نحو قرن ونصف، لم يمر أى استحقاق انتخابى دون أن تناله اتهامات بالتلاعب والتزوير من أحزاب المعارضة والمرشحين المستقلين الذين خسروا المعركة أمام أحزاب ومرشحى السلطة.
اللافت فى انتخابات مجلس النواب الأخيرة أن النقد جاء من رأس السلطة التنفيذية نفسه؛ إذ وجه رئيس الجمهورية انتقادًا صريحًا للعملية الانتخابية، وطالب بإلغائها ــ كليا أو جزئيا ــ إذا تعذر الوصول إلى إرادة الناخبين الحقيقية.
بيان الرئيس عبد الفتاح السيسى، عما جرى من أحداث فى الجولة الأولى من انتخابات مجلس النواب، رفع الغطاء عن حجم التجاوزات والمخالفات الجسيمة التى نالت من نزاهة العملية الانتخابية وسلامة إجراءاتها، وهو ما ضاعف من شروخ الاستحقاق الذى من المفترض أن يكون أساسا لشرعية مجلس يمنح الحكومة الثقة ويحجبها، ويراقب أداءها نيابة عن المواطنين، ويناقش التشريعات المنظمة للعلاقات بين مؤسسات الدولة من جهة وبين المواطنين من جهة أخرى.
بعد دقائق من نشر البيان الرئاسى، ضجت مواقع التواصل الاجتماعى بآلاف المقاطع المصورة والتدوينات التى ترصد عمليات حشد وتلاعب خارج لجان التصويت وخارجها، وظهرت بيانات وتسجيلات نسبت إلى نوادى القضاة والهيئات القضائية، يسعى كل طرف فيها إلى التبرؤ مما جرى من مخالفات وتجاوز.
وفيما حسمت الهيئة الوطنية للانتخابات أمر ما وصل إليها من شكاوى عن «مخالفات وتجاوزات جسيمة»، وأصدرت قرارا بإلغاء نتائج 19 دائرة انتخابية، ينتظر الجميع أحكام المحكمة الإدارية العليا فى أكثر من 250 طعنا، طالب بعضها بإلغاء العملية برمتها، أو إعادة الانتخابات فى دوائر بعينها، أو بطلان النتائج المعلنة.
هذا الطعن غير المسبوق فى الاستحقاق الانتخابى أفقد الناس ما تبقى من ثقة فى نزاهة وسلامة إجراءت العملية الانتخابية، فغالبية الرأى العام، الذى لم يُظهر اكتراثا يُذكر خلال الشهور الماضية بالمسار الذى مهد لتلك الانتخابات، وما رافقه من هندسة لصالح أحزاب الموالاة، بدءا من تمرير قوانين انتخاب ونظام انتخابى يهدر أكثر من نصف أصوات الناخبين، مرورا بما تردد عن تفصيل بعض الدوائر على مقاس أصحاب القدرات المالية الكبيرة، وصولا إلى فرض قائمة وحيدة تضم أحزاب الموالاة وبعض الأحزاب المتحالفة معهم، أمام هذا كله وجد الرأى العام نفسه أمام تجاوزات فجة موثقة داخل اللجان وخارجها، أعادت إلى الأذهان ما جرى فى انتخابات 2010 وما تبعها من تداعيات لا يتمنى أحد تكرارها.
البرلمانات تستمد شرعيتها من الشعب الذى يمنحها تفويضا عبر صناديق اقتراع من المفترض أن تعكس إرادته الحقيقية، وإذا لم تتوافر للعملية الانتخابية متطلبات النزاهة وشروط السلامة القانونية والإجرائية، فإن البرلمان يفقد بالتبعية شرعيته الدستورية، وإذا لم تحظ النتائج بالحد الأدنى من الرضا الشعبى تصبح مشروعيته محل طعن دائم.
تمرير قوانين انتخاب لا تعكس إرادة الناس، واستبعاد كتل وأحزاب سياسية ومرشحين بعينهم من السباق، وغض الطرف عن المال السياسى الذى «أتعب» المستشار أحمد بندارى، المدير التنفيذى للهيئة الوطنية للانتخابات، واعتبره بعض رموز أحزاب الموالاة مجرد «هبات» يقدمها المرشحون لأحزابهم قبل انطلاق الانتخابات، يضاف إلى ذلك عمليات شراء الأصوات، ومنع مندوبى المرشحين ووسائل الإعلام من حضور الفرز والحصر العددى داخل اللجان الفرعية.. كل ذلك نال من شرعية الانتخابات وشوه البرلمان المقبل قبل أن ينعقد، وهز ثقة الجمعية العمومية للشعب المصرى فيه، وهو ما يجعل شبهة التلاعب والتزوير تلاحقه طوال مدة انعقاده.
إذا كانت الآلة التى أنتجت هذا البرلمان قد أصابها خلل بالغ ــ باعتراف كل أطراف العملية الانتخابية ــ فلا يمكن للمنتج النهائى أن يكون بمنأى عن الشك، مهما حاول البعض تجميل المشهد أو اتخاذ إجراءات تضمن مرور المرحلة الثانية بشكل يوحى بنزاهتها، فالنزاهة ليست صندوق اقتراع فحسب؛، بل سلسلة مترابطة من الإجراءات، وقد تعرضت هذه السلسلة لتشويه غير مسبوق.
لا يمكن القفز فوق الشروخ التى هزت شرعية مجلس النواب المقبل، فإذا كان هناك اتفاق عام على احترام إرادة الشعب المصرى حسبما أقر الجميع خلال الأيام الماضية، فإن الفرصة ما زالت قائمة، ولا عيب فى تصفير الإجراءات لنبدأ عملية يطمئن الرأى العام لسلامتها.. دون ذلك، ستظل شرعية البرلمان المقبل معلقة فى الهواء.