إعادة التحقيق فى حرب البسوس

سمير عمر
سمير عمر

آخر تحديث: الأحد 23 نوفمبر 2025 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

فى حادثة مقتل عدى بن ربيعة التغلبى، المعروف بلقب الزير سالم، يقول الرواة إنه خرج إلى الصحراء دون وجهة محددة، وبصحبته عبدان من عبيده، فضاق العبدان به وقررا قتله، وحين علم الزير سالم بنيتهما لم يقاوم بل أمرهما بالإسراع فى قتله، وطلب منهما أن يبلغا ابن أخيه «الهجرس» بيتا من الشعر، وقال لهما احفظا ما أقوله جيدا وأبلغا به «الهجرس» وأنشد يقول:

من مُبلغُ الحيين أن مُهلهِلا

لله دركما ودر أبيكما

و« المهلهل» هو أحد ألقاب الزير سالم.

وبعد أن أنهى العبدان حياة الزير سالم، حملا جثمانه وعادا به إلى ديار أهله وأخبرا «الهجرس» بأن الزير سالم مات بلدغة عقرب أثناء وجودهم فى الصحراء، وأسمعاه بيت الشعر كما طلب منهما، واستغرب «الهجرس» ركاكة نظم البيت الشعرى، بما يخالف قدرات الزير سالم الشعرية، وحينئذ تدخلت «اليمامة» بنت أخيه «كليب» وقالت: عمى لا ينظم شعرا ركيكا كهذا، لابد أنه يقصد:

من مبلغُ الحيين أن مُهلهلا

أضحى قتيلا فى الفلاة مجندلا

لله دركما ودر أبيكما

لا يبرح العبدان حتى يقتلا

فعلم «الهجرس» أن العبدين قد قتلا «الزير سالم» فقتلهما.

وعلى هذا النحو وبرحيل الزير سالم وضعت «حرب البسوس» أوزارها بعد أربعين سنة من القتال

أقوال الحارث بن عباد

قبل مقتله على يد العبدين بنحو عشرين عاما، نجا «الزير سالم» من القتل على يد «الحارث بن عباد» والحارث بن عباد كان واحدا من أشهر فرسان العرب وفصحائهم، وقد اعتزل «حرب البسوس» وأمر أهله وعشيرته بعدم المشاركة فيها حقنا للدماء وأطلق مقولته التى باتت مثلا يُضرب:

«هذه حرب لا ناقة لى فيها ولا جمل»

لكن وبعد سنوات القتال المريرة التى تسببت فى مقتل المئات من أبناء العمومة فكر الحارث بن عباد فى الانتقال من حالة «عدم الانحياز» إلى حالة «الحياد الإيجابى» وقرر أن يرسل ابنه «جبير» إلى الزير سالم ومعه رسالة يقول فيها: «إنك قد أسرفت فى القتل وقد أرسلت إليك ابنى فإما قتلته بأخيك» يعنى تقتله ثأرا لأخيك كُليب «وأصلحت بين الحيين، وإما أطلقته وأصلحت ذات البين، فقد مضى فى هذه الحرب من كان بقاؤه خيرا لنا ولكم»، وبالفعل حمل الشاب «جبير» رسالة أبيه وذهب إلى الزير سالم وقرأها عليه، لكن الزير سالم حين سمع الرسالة استشاط غضبا وقتل «جبير» وهو يردد: «بل بشسع نعل كُليب» بمعنى أن جبير بن الحارث بن عباد لا يساوى رباط نعل أخيه كليب، وبعدها دخل الحارث بن عباد الحرب ضد الزير سالم وكاد أن يقتله لولا أن الزير سالم خدعه ونجا من القتل.

أقوال جساس بن مُرًة

تقول الرواية المشهورة إن «حرب البسوس» اندلعت حين قتل «كليب» ناقة البسوس بنت منقذ التميمية خالة «جساس بن مرة» حين رآها ترعى فى أرضه، وعندئذ صرخت البسوس وكانت من شاعرات العرب: واذلاه ، واغربتاه.

فشعر ابن اختها «جساس» بالمذلة فقرر قتل كليب، وبعدها بدأت الحرب بين بكر وتغلب.

القضية إذن ليست فى قتل الناقة، ولكنها فى الشعور بالإهانة، ومن قبله الشعور بالغيرة لدى «جساس» والذى غذته خالته «البسوس» قبل واقعة قتل الناقة وبعدها.

نحن هنا أمام حرب امتدت لأربعين سنة، سقط خلالها مئات القتلى، وتسببت فى إفساد العلاقات بين القبائل والعشائر العربية، وفتحت الأبواب على مصاريعها أمام الباحثين عن الفتنة، الساعين للوقيعة بين الأشقاء.

كان «كليب» جديرا بالزعامة حقا لكنه أخطأ حين تجاهل شعور أبناء عمومته بالغيرة، وكان بوسعه أن يؤلف بين القلوب فيجنب الجميع ويلات الحروب، وكانت غيرة «جساس» من ابن عمه «كليب» طبيعية، فهو رغم اعترافه بقدراته القيادية وتقديره له، كان يتمنى أن يحظى بتقدير مماثل منه وهو ما لم يحدث، فوقعت الواقعة، وكان «الزير سالم» شاعرا صعلوكا لا يعبأ كثيرا بهموم السياسة وشواغلها، لكن مقتل أخيه أخرجه من فضاء الإبداع إلى ساحات القتال، فمضى فى حربه دون هوادة ولم يمنح الساعين إلى وقف الحرب أى فرصة لإصلاح ذات البين.

انقضت حرب البسوس لكنها بقيت عالقة فى ذاكرة العرب حاضرة فى جلساتهم، كلما طرأ خلاف أو شب نزاع بين الأشقاء، فيا أيها الأشقاء تذكروا أنه لو فكر كل طرف من أطراف الصراع فى حرب البسوس بطريقة مختلفة ووضع نفسه موضع أخيه، ما قامت الحرب، وما استمرت لأربعين عاما، وما تركت كل تلك الجروح الغائرة فى نفوس الجميع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved