قطط فارسية

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 23 ديسمبر 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

هذا النوع من الحيوانات الأليفة لا يحب المغامرة ولكن كسائر القطط يتحمل المواقف الصعبة ويقاوم.. ويتحول إلى صياد ماهر يجول فى الشوارع إذا لزم الأمر وإن كان يفضل البقاء داخل البيوت.. تترقرق دموعه، تاركة أحيانا بقعا صغيرة على فروته، وذلك لانسداد شائع فى القنوات الدمعية.. هذه القطط الجميلة الباكية قد تصحبنا فى أزقة طهران، المدينة التى تتأرجح بين حب الحياة والقمع، تشبه قططها الفارسية الحزينة رغما عنها ومواطنيها الذين ينتمى معظمهم للشباب، فسبعون فى المائة تقريبا من سكان إيران هم من الشباب.

 

على الرغم من أننى لا أعرف اللغة الفارسية، فإننى أهتم بكل ما يصدر عن إيران من ثقافة (أفلام و كتب وموسيقى وصحف) تعكس طبيعة الحياة هناك، حيث أوجه التشابه بين أبناء الحضارات القديمة وعلاقتهم بالدين وبالحداثة. ولكن فى ظل ما يمر بمصر من أحداث أصبح لما يكتب عن إيران وقع خاص، فمثلا حين تحكى آذار نفيسى فى روايتها «أن تقرأ لوليتا فى طهران» عن فنانة تشكيلية صديقة لها وكيف تحولت أعمالها إلى بقع لونية متمردة «لأن الواقع بات مؤلما ولا يطاق، ولأنها لم تعد تملك سوى الكشف عن ألوان أحلامها عبر اللوحات»، أشعر بقشعريرة هادئة. آذار نفيسى اضطرت إلى ترك عملها بالجامعة، ولكنها اختارت سبعة من طالباتها حتى تدرسهم فى منزلها لمدة سنتين كاملتين بعض روائع الأدب العالمى.. وسجلت ذلك فى روايتها مع تغيير الأسماء وبعض الوقائع، ثم نشرتها بالإنجليزية فى منتصف التسعينات. اختزلت عالمها فى هذه اللقاءات، فلم يعد من الممكن تدريس الأدب بالجامعة فى ظل نظام يحرص على حذف كلمة «نبيذ» من قصص هيمنجواى ويعتبر أن إميلى برونتى صاحبة «مرتفعات ويذرينج» تحض على الرذيلة، على حد تعبيرها.

 

●●●

تكتمل صورة الجامعة من خلال كتاب أحدث له طابع الريبورتاج الصحفي، وهو «شرائط وعمائم» للصحفى الفرنسى ذى الأصول الإيرانية، أرمين عارفى، حين يروى شاب فى إحدى السهرات الخاصة كيف تم «أسلمة» كليته بصورة أكبر بعد وصول أحمدى نجاد للحكم، استبعد الأساتذة البارزين و سجن الطلاب الناشطين سياسيا أو حتى موسيقيا.. لم يبق له إلا التمتع قليلا من خلال بعض الحفلات الماجنة التى تقام فى منازل الأصدقاء بالأحياء الراقية شمالى طهران، حيث المشروبات الكحولية والمخدرات وعالم سفلى قد يداهمه فى أى لحظة «الباسيج» أو قوات التعبئة الشعبية التابعة للحرس الثورى، فما يتم منعه فى العلن يقود دوما إلى الممارسة فى الخفاء. كانت كلمة السر للدخول إلى السهرة هى «الإسلام فى خطر»، إذ يؤكد العديد من الشباب الذين جاء ذكرهم فى الكتاب أن الساسة نجحوا فى دفعهم إلى كراهية الدين، دون الوصول إلى عدالة اجتماعية، فالأسعار فى ارتفاع رغم أن نجاد كان قد وعدهم بتوزيع عائد البترول على الفقراء بدلا من أن ينتفع به الأجانب. يتهكم بعضهم على خطابات الرئيس الشعبوية، وخصوصا عندما يتكلم عن محبيه الذين انتظروا ظهوره لمدة 10 أو 12 ساعة، لأنهم يعلمون جيدا أن هؤلاء الأتباع قد تم شحنهم فى حافلات من سائر المحافظات و القرى، فهو حشد بأوامر من أعلى و ليس تجمعا عفويا... والسلطة ليست دوما فى متناول الرئيس، على حد قولهم.

 

●●●

 

الكتاب صدر على خلفية الإنتخابات الرئاسية لعام 2009، لذا فعنوانه يشير إلى الشارات الخضراء أو الشرائط التى كان يلفها الثوار الشباب حول رصغهم للدلالة على تأييدهم لحسين موسوى و القوى الإصلاحية. ورغم رفضهم للأوضاع إلا أنهم ينأون بنفسهم عن الثورة، فقد فعلها أهلهم قبل ثلاثين عاما وأتت بحكم العمائم الذى يتمردون عليه اليوم، و لكن بحدود.. لأن المجتمع الإيرانى متدين بطبعه ويؤمن بالغيبيات، كما يقولون، وهناك أجيال كاملة لم تر سوى حكم الملالى وتشبعت به حتى دون أن تعى ذلك. فمن خلال الكتاب أيضا نتعرف على جواد الذى انضم لقوات الباسيج بمرتب يعادل 300 يورو فى الشهر، أعطوه بدلة خضراء رسمية وسلاح، فصارت له هيبة فى الحى، ولن يسمح لكائن من كان أن يسلبه ما وهبته السماء من بركة واحترام، وهو ينتظر أن تزوجه والدته بفتاة بريئة «لا شافت الشمس ولا ضى القمر»، أو أن تأتيه الشهادة.. لكن آخرون فى مثل سنه لا يفكرون بتاتا فى الموت ولا يتمنونه ومع ذلك يباغتهم وسط صفوف الناشطين والرافضين للوضع العام مثل أمير آرشاد تجمير الذى دهسته سيارة الشرطة عمدا خلال المظاهرات، وظل أصدقاؤه يبعثون إليه بالرسائل عبر الفيسبوك، غير مصدقين موته.. هؤلاء هم من يغنون فى الجراجات والأقبية ويستمعون لموسيقى Hichkas  و Kiosk من الروك والهيب هوب، والتى استخدمها المخرج بهمان غوبادى فى فيلمه «قطط فارسية» ليتناول الربيع الإيرانى متنقلا بين جنوب طهران الفقير وشمالها المترف، خلال انتخابات 2009، وذلك من واقع موسيقيين يحلمون بالرحيل كحال العديد من الشباب وكحال القطط الفارسية التى تضطر أحيانا إلى الخروج من البيت والمغامرة، فمنذ صعود المتشددين إلى الحكم غادر عشرات الآلاف من الشباب.. وصار المنفى هو الحل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved