المجلس الأعلى للسياسات الاقتصادية

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 23 ديسمبر 2019 - 7:15 م بتوقيت القاهرة

بعيدًا عن التعديلات الوزارية التي أجريت، فإن ما يتردد دائمًأ عن استبدال وزارة الاستثمار بمجلس أعلى للاستثمار، أعادنى إلى مداخلات ومقالات عديدة نشرت لى على مدى عقد ما بعد ثورة يناير، منها ما كان فى عام 2016 عند دعوة الوزيرة السابقة داليا خورشيد لتشكيل مجلس أعلى للاستثمار برئاسة رئيس الجمهورية تكون مهمته فصل التداخلات المعنية بأمر تيسير الاستثمار، وكنت وغيرى من الاقتصاديين مدعوين للتعقيب على الفكرة التى لا أعلم لها مآلا اليوم على الرغم من ترحيب السيد الرئيس بها عند إطلاقها. استخدمت صديقى العزيز محرك «جوجل» للرجوع سريعا إلى فحوى تعقيبى على إنشاء مجلس أعلى للاستثمار، فوجدتنى كعادتى أصبو إلى المزيد مسترشدا فى ذلك بدعوة سابقة لى بإنشاء المجلس الأعلى للسياسات الاقتصادية والذى يكون من بعض شأنه وضع استراتيجية عامة لتنمية الاستثمارات المحلية والأجنبية، وتذليل مختلف العقبات «الحقيقية» أمام المستثمر، والتى ربما يكون أهونها طول الانتظار أمام جهات إصدار التراخيص، تلك التى كان حلها حاضرا دائما بإنشاء الشباك الواحد.
الحاجة إلى مجلس أعلى للسياسات الاقتصادية تنبع بشكل مباشر من عدم وجود وزارة للاقتصاد، ومن منطلق أن مصير أى وزارة جديدة تحمل هذا الاسم لن يكون أفضل من وزارات الاقتصاد التى كانت ضمن تشكيل حكومات سابقة، أو حتى مصير وزارة الاستثمار التى يدعو الكثيرون إلى إلغائها اليوم. فوزارة الاقتصاد التى ينبغى لها أن تعنى بشئون الاقتصاد الكلى، وبوضع رؤية شاملة لما يجب أن تكون عليه السياسات المالية والنقدية والتجارية للدولة خلال سنوات الخطط التأشيرية للحكومة، لابد لها أن تصطدم بعقبات أكبر من تلك التى تواجه وزارة الاستثمار وهيئتها العامة عند كتابة تلك السطور. فالرؤية القطاعية لكثير من الوزارات سوف تتداخل على نحو كبير، وتشتبك الملفات التى يحملها الوزراء فى حقائبهم، وينشأ بالضرورة تعارض «حميد» للمصالح نتيجة حرص كل وزارة على النهوض بملفاتها، لكن العزف المنفرد الجميل لتلك الوزارات يحتاج دائما إلى مايسترو قوى نافذ يملك رؤية أكبر تحقق التناغم بين العازفين، وتخرج قطعة موسيقية تليق بمصر. هذا المايسترو إن كان وزيرا بصلاحيات وحقيبة عادية، فلن تعدو مؤشراته وخططه وسياساته أن تكون محض رأى غير ملزم، ويبقى الأمل الوحيد فى فرض تلك السياسات أن تصدر عن كيان أعلى.
***
كثير من مشكلات تنازع الملفات سوف يحسمها المجلس الأعلى للسياسات الاقتصادية. كثير من قرارات تحريك أسعار الطاقة سوف تعرض تداعياتها أولا على غرف مختصة بهذا المجلس، من أجل الخروج بدراسة تحليلية كمية دقيقة للأثر الكلى لرفع سعر الكهرباء والغاز ــ مثلا ــ على مختلف مدخلات ومخرجات الناتج المحلى الإجمالى للدولة. استراتيجية تصنيع السيارات سوف ترى النور، بعد أن تتوزع الاختصاصات بين الأطراف المختلفة، ويعرف كل طرف حدود مسئوليته وملكيته لأهداف تلك الاستراتيجية.
بالتأكيد تحقق اجتماعات وقرارات المجموعة الاقتصادية فى الوقت الراهن طرفا من هذه الأهداف المرجوة، خاصة بعد أن تضمن تشكيلها محافظ البنك المركزى ممثل السياسة النقدية، غير أن «محرك» المجموعة ومكتبه الخلفى، لن يبلغا الطبيعة المؤسسية للمجلس الأعلى الذى لا تنعقد جلساته إلا لاتخاذ قرار تم صناعته بعناية فى مخازن الأفكار الخلفية، ومراكز دعم القرار الملحقة. قرارات رفع أو خفض أسعار الفائدة تظل عملية هامة لا يمكن انتزاعها عن مجلس إدارة البنك المركزى، لكن الأثر الكلى لأدوات السياسة النقدية يجب أن يوضع له إطار أوسع، وأن تقاس تداعيات القرارات المتصلة بتلك السياسات على الاقتصاد كله، خاصة عند مرور البلاد بظروف اقتصادية حرجة، أو عند تبنى برنامج اقتصادى شديد الحساسية، يخضع لرقابة صارمة من المؤسسات المالية والنقدية المانحة.
نماذج التنبؤ والسيناريوهات المختلفة هى بعض أدوات مراكز دعم القرار الملحقة بالمجلس الأعلى للسياسات الاقتصادية. هناك حزمة من النماذج التى تنشأ لدراسة أثر تغير التعريفة الجمركية على إيرادات مصلحة الجمارك، وهى فى ذات الوقت تبحث عن حالة التوازن العام للاقتصاد عند التنبؤ بأثر ذلك التغير فى الضريبة الجمركية على الناتج الصناعى فى مجمله، ثم على الناتج الإجمالى للاقتصاد فى مختلف الآجال.
***
قد يبدو ما ذكرته آنفا بديهيا ومستهدفا عبر أدوات وحقائب أخرى فى منظومة إدارة شئون البلاد، لكن التجربة العملية تؤكد أن تلك الأدوات القائمة أمكنها تحقيق مكاسب قطاعية استثنائية، بل وانعكست بعد حين بشكل إيجابى على كثير من مؤشرات قياس الأداء الاقتصادى فى عمومه مثل معدلات النمو والتشغيل والتضخم.. لكن تنسيق السياسات والقرارات الاقتصادية من شأنه أن يجنى ثمارا أكبر وبكفاءة أعلى بحساب تكلفة الفرصة البديلة، بل وبحساب التكلفة المباشرة للدين العام ونصيب خدمته من الموازنة العامة للدولة.
البدء بتنسيق السياسات الاقتصادية له مردود مباشر على التشريعات الصادرة عن حقائب المجموعة الوزارية، ورسم استراتيجيات جذب الاستثمار فى الأنشطة الاقتصادية المختلفة. هنا تكون مهمة أية هيئة ترويجية أيسر من أى وقت مضى، لأن السياسات العليا المرتبطة بتخصيص الأراضى، وتحديد الإعفاءات الجمركية، والامتيازات الضريبية، وعقود المشتريات الحكومية، ومسارات أسعار مصادر الطاقة ومزيج الطاقة المتجددة (لا غنى بالتأكيد عن جهاز لتخطيط الطاقة).. إلى غير ذلك من سياسات سوف يتم تنسيقها على مستوى القيادة العليا للبلاد، وبتمثيل وحضور إيجابى من مختلف الجهات والأطراف الفاعلة فى المشهد الاقتصادى العام.
ربما لن تجد شبيها لهذا النوع من المجالس العليا فى الدول الأكثر تقدما على الصعيدين السياسى والاقتصادى، ويدهشك أن تجد دولة غنية (صغيرة جدا) مثل قطر قد أنشأت حديثا مجلسا مشابها لتحقيق ذات الغرض، لتظل دائما طبيعة النظام السياسى ومركزية الإدارة فى مصر منذ آلاف السنين سببا فى البحث عن إطار يناسب مرحلة التطور التى نمر بها ويواكب أهداف التنمية الطموح التى يزدان بها الخطاب السياسى. إننى أحسب أن شر ما يصاب به أصحاب الهمم هو التشتت والغرق فى التفاصيل بغير رؤية واضحة فى نهاية النفق الطويل.
وضوح الرؤية وصلابة الكيان المنوط به رسمها وصيانتها شرطان لازمان لبلوغ غاية التنمية الشاملة المستدامة من أقصر الطرق. رؤية مصر ٢٠٣٠ هى مشروع غاية فى الأهمية، وقد وضعت محددات وعناصر لتقييم المحطات المتتالية على طول طريق تلك الرؤية، يعوزها إرادة التغيير وإدارته على نحو ما سبق أن ذكرنا. بل إن رؤية جديدة لثلاثة عقود قادمة أصبحت ضرورية اليوم فى ظل عالم متغير متخم بالتحديات والفرص، وليس أقل من ضلوع مجلس أعلى للسياسات الاقتصادية فى مساعدة وزارة التخطيط على رسم مراحل تلك الرؤية، وتنسيق جهود تنفيذها وقياس أداء مختلف عناصرها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved