لماذا أحببنا اللغة العربية؟

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 23 ديسمبر 2021 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

لو حاولتُ أن أرسم صورة لفصلي داخل إحدى مدارس الراهبات في مطلع الستينيات فسوف تظهر في هذه الصورة وجوه حبيبة لزميلات من أصول أجنبية من بقايا فترة ما قبل ثورة يوليو، أذكر مثلًا زميلة من أصل يوناني كانت تُدعى أنّا بابادوبلو أظنها هاجرت بعد المرحلة الابتدائية، ولم تكن وحدها على أي حال فقد كانت هناك زميلة إيطالية تُدعى كريستين ماڤيون وثالثة أرمنية تُدعى إيلين بابيكيان، ورابعة وخامسة.. إلخ، فالفصل المدرسي هو جزء لا يتجزأ من المجتمع وكان المجتمع المصري في تلك المرحلة مازال محافظًا على تنوعه، ومع ذلك كان تدريس اللغة العربية قويًا وكانت هذه اللغة تفرض نفسها كلغة تعبير وتواصل وانتماء لثقافة البلد الذي نعيش فيه وإن لم نولد جميعًا على أرضه بالضرورة.

 

لم تعرف هذه الفترة أيضًا تلك الصحوة الدينية التي شهدناها اعتبارًا من عقد السبعينيات وهي الصحوة التي تفترض فيمن يمارسون الدعوة الدينية إتقان اللغة العربية لأنها لغة القرآن، في الواقع لم يكن يوجد لدينا هذا الربط الميكانيكي بين العروبة والإسلام، بل كنّا نقدّر الدور الكبير الذي به قام المسيحيون المشارقة العرب في النهوض باللغة العربية كثقافة جامعة بين شعوب المنطقة، وحفظت الذاكرة الجمعية المصرية على سبيل المثال الدور الجليل الذي أدّاه صالون مي زيادة بالنسبة لكل الناطقين بلغة الضاد، فكان من رواده فطاحل الأدب شعرًا ونثرًا من أمثال عباس محمود العقاد وأحمد شوقي وطه حسين وكانت لهم فيه صولات وجولات. ثم أن نصوص القراءة في مقرراتنا لم تكن لطيفة ولا مسليّة دائمًا، بالعكس كانت فيها مساحة كبيرة للشعر الجاهلي الغليظ غير المفهوم، ومَن تراه ينسى معلّقة امرؤ القيس الشهيرة التي تغنّى فيها بخصال جواده المذهلة فوصفه بأنه "مكّر مفّر مقبل مدبر معًا.. كجلمود صخر حطّه السيل من علٍ"؟ ولم يخفف علينا صعوبة هذا النوع من الشعر إلا دخول شعراء المهجر على الخط بحنينهم الجارف إلى الوطن وأبياتهم الشعرية بالغة العذوبة. ومن حكايات أمي عن ذكرياتها في مدرسة الراهبات بمدينة طنطا في نهاية مرحلة الثلاثينيات علمتُ أنه كان ممنوعًا على التلميذات استخدام اللغة العربية في أثناء الفسحة من أجل تعويد اللسان على الفرنسية، ومَن تخالف كانت تدفع غرامة مالية، صحيح كانت رمزية لكنها كانت كافية لضمان احترام التعليمات. والقصد أن الطريق لم تكن مفروشة بالورود أمام انتشار اللغة العربية لا في الستينيات ولا قبلها، ولا كان المناخ العام كله منحازًا لهذه اللغة، ففي الخلفية كانت هناك كالعادة تلك المعركة الأبدية بين الفصحى والعامية وحوارات العروبة والمتوسطية. ومع ذلك فإننا كنّا كتلاميذ نحب لغتنا الجميلة ونحرص على التفوق فيها، وكنّا نستعذب المبالغة خفيفة الظل للباشا سليمان نجيب في فيلم "غزل البنات"، وهو الأب الذي استاء من الرسوب المتكرر لابنته ليلى في اللغة العربية فما كان منه إلا أن تعاقَد مع مدرّس اللغة العربية نجيب الريحاني أو الأستاذ حمام حتى يجعل ليلى "تعطس" باللغة العربية!

•••

كنّا نحب اللغة العربية لأن مدرسّيها اهتموا بها واستطاعوا أن ينقلوا لنا صدق هذا الاهتمام، والصدق أفضل موصّل للمشاعر. كانوا ينظمون لنا مسابقات القراءة باللغة العربية ويشجعونا على النظرة النقدية للأعمال الأدبية لكبار الكتّاب ويناقشونا فيها، وكانوا يفاجئونا بين الحين والآخر بهدايا بسيطة تُطمئننا على أن لكل مجتهد نصيب. وبينما نجد اليوم أن الكل يخطئ في قواعد اللغة العربية من أول الصحفيين والأدباء وحتى خطباء المنابر وشيوخ الفضائيات مرورًا بالمسؤولين السياسيين في مواقع مختلفة فإن مدرسينا كانوا مالكين لناصية اللغة العربية تمامًا، واحتاج منّا الأمر نحن تلامذتهم وقتًا طويلًا حتى نقلّد مخارج ألفاظهم ونتدرّب على تفخيم الضاد وعدم خلط السين بالثاء والذال بالزين، فنجحنا وفشلنا. وبطبيعة الحال سنجد مَن يقول لنا إن انحسار الاهتمام بتدريس اللغة العربية هو انعكاس لتدهور مكانتها المجتمعية بشكل عام، فسوق العمل وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والأفلام والألعاب تقدم فرصًا وتواصلًا وعلمًا وترفيهًا لأولئك الذين يتقنون اللغة الإنجليزية لا للمتمكنين من اللغة العربية، ومدرس اللغة العربية هو في النهاية بشر وإن شعر أن بضاعته غير رائجة فإنه لن يتفنن في تدريسها، وهذا المنطق صحيح لكنه خطير. هو صحيح لأنه يعكس واقع الحال فهناك تراجُع ملحوظ في مكانة اللغة العربية واستسهال للخطأ فيها وربما تفاخُر بهذا الخطأ باعتباره مظهرًا من مظاهر الأرستقراطية. لكن هذا المنطق خطير في الوقت نفسه لأنه يتعامل مع المدرس كتاجر وليس كحامل رسالة، ومع اللغة كسلعة وليس كأحد أبرز مقومات الهوية، فماذا لو جاء اليوم الذي يختفي فيه الطلب على اللغة العربية فهل سيعني ذلك اندثارها؟ سؤال مدهش لكن بعض الدهشة مطلوب لإثارة الاهتمام.

•••

إن اختزال مشكلة النفور من اللغة العربية في المدرس وحده لا يتسّم بالموضوعية بالتأكيد فهناك عوامل أخرى كثيرة تؤثّر، لكن المدرس هو الشارح والوسيط وأداة الوصل وبصمته الشخصية تدوم لأنه المتغيّر الأهم في العملية التعليمية، وعلى امتداد مشوارنا الدراسي سنجد كثيرين منّا أحبوا علومًا ولم يحبوا علومًا أخرى على وقع علاقتهم بمدرسيهم صعودًا وهبوطًا. لذلك ونحن نحتفي بيوم اللغة العربية فلعلنا نبدأ بالاهتمام بمدرسيها الذين نأتمنهم على تعليمها، وإذا كان كل عصر يطرح على هذه اللغة تحديات مختلفة فإن الفارق بين عصر وآخر يكمن في مدرس يتحمس لمواجهة التحدي ومدرس آخر لا يتحمس.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved