مصر والغطاس

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 24 يناير 2020 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

يعود عيد الغطاس عند المصريين إلى القرن الأول الميلادى، وقد أطلق عليه هذا المسمى نسبة إلى معمودية السيد المسيح من النبى يوحنا المعمدان (يحيى) فى نهر الأردن، وقد ظهر يوحنا المعمدان (يحيى) أول ما ظهر فى البرية خارج أورشليم على نهر الأردن بثياب أنبياء العهد القديم خاصة النبى إيليا (إلياس) الذى كان يغطى جسده بقطعة واحدة من جلد الحيوانات البرية، وقد ظهر المعمدان فى زمن يفصله عن آخر نبى ظهر فى التاريخ اليهودى بأربعمائة عام، وكان اسمه ملاخى النبى، كانت فلسطين فى ذلك الوقت مستعمرة رومانية حيث كان الرومان يسيطرون على العالم كله تقريبا، وكانت تدعى بالإمبراطورية الحديدية التى ورثت إمبراطورية الإسكندر الأكبر اليونانية، وفكرة التطهر بالماء كانت فى مصر قبل دخول المسيحية بسنوات، فكل أعياد مصر القديمة ارتبطت بالنيل الذى هو شريان الحياة للمصريين، فكان فى بدايات كل فصل شتاء يغطس المصريون فيه على طول النهر، وكان احتفالا قوميا يحضره الحاكم شخصيا لإعداد الأرض للموسم الزراعى بتنقية الأرض بالفأس من البذور المتبقية والجذور المنسية من الموسم السابق فى الأرض، ثم يقومون بحرث الأرض ونثر البذور (التقاوى) بها، لكن بعد دخول المسيحية إلى مصر ارتبط هذا الموسم الزراعى بذكرى تعميد السيد المسيح من يوحنا المعمدان فى نهر الأردن، وكان المسيحيون المصريون يعمدون أولادهم فى نفس الموعد فى النيل، وهذا التقليد ما زال مستمرا إلى اليوم فى معمودية الأطفال داخل الكنائس، فالأسر تفضل تعميد أطفالها فى الموعد الذى تعمد فيه السيد المسيح، لكن ما هى فكرة المعمودية للتوبة فى التاريخ البشرى؟! وكيف كانت معمودية السيد المسيح من يوحنا المعمدان فاصلا تاريخيا يعلن فيه نهاية الديانة اليهودية التى ترتبط بأرض ووعد وشعب (أى أرض مقدسة موعود بها لشعب مختار هو الشعب اليهودى الذى اختاره الله ليكون شعبه من كل شعوب العالم)، وهكذا جاءت معمودية المسيح بداية انطلاق لرسالة جديدة من الله مباشرة إلى كل شعوب العالم ليس من شروطها أرض مقدسة وشعب مختار وهيكل له شخصية متميزة. لكن كيف حدث ذلك؟ ولماذا اختار الله هذا التوقيت بعينه، وفى أرض فلسطين بالذات؟
***
البداية كانت من فكرة العولمة الرومانية، التى ابتدعت وظهرت ببدايات استيلاء الرومان على العالم، ولم تتكرر هذه العولمة ثانية إلا فى العصر الحديث مع الإمبراطورية الأمريكية، والتى تكونت وبنيت من الآباء المؤسسين على غرار الإمبراطورية الرومانية كنموذج لم يكن قد تكرر بعد، والعولمة تتكون من ثلاثة أعمدة: لغة علم عالمية يمكن للعالم كله أن يتفاهم بها وتعتبر من أرقى اللغات، وجنسية عالمية والذى يحصل عليها يعتبر مواطنا عالميا مقبولا فى أى مكان فى العالم، ثم قانون عالمى يسود ويحكم شعوب العالم، ولنبدأ بالنموذج الأمريكى الحديث الذى تأسس بالمقارنة بالنموذج الرومانى أو فلنقل على غراره، فالنموذج الرومانى كانت فيه اللغة اليونانية هى لغة العلم المعتمدة فى كل أرجاء الإمبراطورية، وكانت تعلم فى كل العالم لأنها لغة الفلسفة والتاريخ والجغرافيا، وكان أى شخص يتحدث اليونانية فى العالم القديم يجد من يفهمه فى أى دولة فى العالم، وبالطبع حلت اللغة الإنجليزية كلغة العلوم والتفاهم بين شعوب العالم، أما الجنسية فقد أصبحت الرومانية هى جواز المرور لكل بلاد العالم، وكان الشخص الذى يحمل الجنسية الرومانية تحميه الإمبراطورية، وكانت كل البلدان المستعمرة من روما تعطى شعوبها أو المثقفين منهم هذه الجنسية، بل وصل الحال إلى بيع الجنسية الرومانية لمن يريد شراءها لأنها تحمى كل من يحملها على طول وعرض الإمبراطورية، أو حتى خارجها، وهناك قصص فى التاريخ تحكى عن هذا الأمر، فبينما كان بولس الرسول المسيحى يبشر بالمسيحية فى مدينة فيلبى التابعة لمقدونيا اليونانية والتى ضمت للإمبراطورية الرومانية عام 68م إذ بضابط رومانى يعتدى عليه بالضرب وهنا قال له بولس: أأنت تضربنى؟! ألا تعلم أنى رومانى الجنسية؟ فارتعب الضابط وقال له كيف حصلت عليها؟ أنا دفعت أموالا لكى أحصل على الجنسية الرومانية، قال له بولس أما أنا فقد ولدت فيها، وبولس كان يهوديا ولد فى مدينة تدعى طرسوس عاصمة كيلكيا فى شرق آسيا الصغرى وقد ضمت للإمبراطورية فأعطوا كل شعبها الجنسية الرومانية، هنا اعتذر الضابط لبولس الذى لم يكتف بذلك الاعتذار بل جعله يعترف به وبالكنيسة التى فى تلك البلدة حتى لا يضطهد من ينتمون إليها ــ لعلك تذكر عزيزى القارئ ماذا يحدث فى منطقتنا مع الأمريكان الذين يحاكمون أمام محاكمها لسبب أو آخرــ أما البعد الثالث للعولمة فى ذلك الوقت فقد كان القانون الرومانى الذى يحكم كل شعوب العالم الخاضعة للإمبراطورية الرومانية.
***
فى مثل هذه الأجواء التى فيها تستعمر روما فلسطين خرج يوحنا المعمدان يعيد تراث الأمة اليهودية بتقاليدها (الكهنوت ــ الهيكل ــ التوراة). وخرج إلى البرية يعمد كل من يطلب أن تغفر له ذنوبه، كان يوحنا المعمدان يمثل اليهودية القديمة الكلاسيكية فهو ابن كاهن يهودى يكهن فى الهيكل اليهودى ويدعو للتوبة إلى «يهوه» إله العهد القديم ويعمد من يتوب، ويخرج المتعمد من المياه ويتجه للهيكل ليقدم ذبيحة، لقد جاء يوحنا المعمدان ليذكرنا بإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف، ويذكرنا أيضا ببابل وأشور ونبوخذ نصر وكورش وفرعون كل هؤلاء الأمم فى صراعهم التاريخى مع الشعب اليهودى، جاء يوحنا المعمدان يحمل على كاهله تاريخ طويل للشعب اليهودى فى صراعاته وورث كل عداءات الشعب اليهودى مع الأمم الأخرى. جاء من شعب يقسم العالم إلى يهود وأمم، عبيد وأسياد، رجل وامرأة ويسمى كل من هم ليسوا يهودا (أغيارا) لقد كان المعمدان سليل عنصر يهودى يسمح الله لهم بأن يبيدوا شعوب العالم التى تعاديهم، وجاء المسيح ليس من سلالة الكهنة كانت أمه العذراء مريم وكان فقيرا جدا، ذهب ليعتمد من يوحنا المعمدان لكن يوحنا كان يعرف مكانته فرفض أن يعمده لكن المسيح أصر قائلا له: «لكى نكمل كل بر» أى يكمل الناموس، وهكذا وافق المعمدان وقام بتعميده. هنا انطلق المسيح بعد المعمودية مباشرة ليطهر الهيكل متنبئا أن عصر الهيكل قد انتهى صارخا «لا يترك حجر على حجر فى هذا الهيكل إلا وينقض. هوذا بيتكم يترك لكم خرابا...» «بيتى بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص»، لقد رفض السيد المسيح عبادة الهيكل، وقدم تعليما ينقض فيه معظم ناموس موسى» سمعتم أنه قيل فى الناموس أما أنا فأقول»... إلخ.
لقد جاء السيد المسيح بتعليم جديد أسقط فيه تقديس السبت اليهودى، وأسقط فيه عبادة الهيكل، وأسقط فيه تعاليم معلمى الناموس بكل تنويعاتهم، مما أدى إلى حقد رجال الهيكل من كهنة وعمال... إلخ وطالبوا بقتله وحرضوا عليه السلطة الرومانية وقد تم لهم ذلك، لقد رفض السيد المسيح ليس فقط الهيكل والعبادة الكهنوتية لكنه رفض أيضا نظام الذبائح فى اليهودية، ورفض أيضا القوانين اليهودية، رفض رجم الزانية التى بحسب نص التوراة ترجم، وقبل الخطاة والأمم والأغيار، وفتح الباب لجميع الأمم فلا يوجد شعب مختار، ولا هيكل يهودى، ولا أرض موعود بها، من هنا انطلقت المسيحية التى هى بنت اليهودية لتكون ديانة عالمية وتتفوق على أمها وقد تحررت تماما من اليهودية القديمة. بل وترفض ما تدعى بالمسيحية الصهيونية التى تعترف بإسرائيل لأنها ببساطة ليست مسيحية.
أستاذ مقارنة الأديان

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved