السلطان قابوس.. التوافق الوطنى ونهضة الداخل

وليد محمود عبد الناصر
وليد محمود عبد الناصر

آخر تحديث: الجمعة 24 يناير 2020 - 12:25 ص بتوقيت القاهرة

تناولنا فى مقال سابق وجهة نظر، حاولنا قدر الإمكان أن تكون موضوعية ومن منظور تاريخى، بشأن إرث سلطان عمان الراحل قابوس بن سعيد فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وعلاقات عمان الإقليمية والدولية فى عهده، ونتناول هنا محاولة طرح رؤية تستند إلى منهج تحليل علمى لتطورات الداخل العمانى على مدى خمسة عقود من حكم السلطان الراحل وتعامله مع هذا الواقع.

وسوف أركز هنا على سبيل التحديد على جوانب مختارة من معالم الداخل العمانى وأحداثه ودلالاتها فى عهد السلطان الراحل.

فقد شهدت سنوات العقد الأول من حكم السلطان الراحل قابوس تواصل الحرب فى إقليم «ظفار» حتى حسمتها قوات السلطان لصالح الحكومة العمانية فى مسقط. وقد بدأ ذلك الصراع المسلح فى عام 1962 فى عهد والد السلطان الراحل واستمر فى التصاعد على مدى السنوات، حيث أصبحت له أبعاد شبه إقليمية وإقليمية ودولية، فعلى الصعيد شبه الإقليمى، خاصة بعد جلاء الاحتلال البريطانى عن جنوب اليمن ونشأة نظام حكم ماركسى لينينى فيما بات يعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والتى انتهى وجودها بالوحدة اليمنية فى مايو 1990، وقفت حكومة عدن بجانب المتمردين فى «ظفار» فى سعيهم لتحقيق استقلال الإقليم، كذلك وقف العراق بقيادة حزب البعث آنذاك بجانبهم، وبالمقابل دعمت الملكيات فى منطقة الخليج وفى الأردن سلطنة عمان فى تلك الحرب.

وعلى المستوى الإقليمى، جاءت الحرب فى إقليم «ظفار» باعتبارها أحد تجليات ما جرى على تسميته بالحرب الباردة فى المنطقة العربية، بحسب تعبير عالم السياسة الأمريكى «مالكوم كير»، والتى جرت بين معسكر ما كان يطلق عليه القوى «التقدمية» أو «الثورية» فى المنطقة العربية مقابل ما جرى على تسميته بمعسكر القوى «المعتدلة» أو «المحافظة» فى المنطقة. أما على الصعيد الدولى، فقد اندرجت الحرب فى إقليم «ظفار» ضمن ما يعرف بـ«الحروب بالوكالة» فى زمن الحرب الباردة الكونية ما بين المعسكر الشرقى بزعامة الاتحاد السوفيتى السابق والمعسكر الغربى بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث دعم كل من الاتحاد السوفيتى السابق والصين الشعبية الثوار فى «ظفار».

وقد حسم السلطان الراحل قابوس الحرب فى إقليم «ظفار» لصالحه بحلول عام 1976، وإن كان بعض المحللين والمؤرخين قد انتقدوا كونه اعتمد لتحقيق ذلك النصر على دعم عسكرى بريطانى صريح بالخبراء المتواجدين فى ساحات القتال وعبر تقديم السلاح والذخيرة بانتظام لقواته وكذلك عبر الغطاء الجوى، وكذلك اعتماده على دخول صريح لقوات الجيش الإيرانى فى زمن آخر شاه من أسرة بهلوى محمد رضا، للقتال بجانب قواته. إلا أننا يجب أن نأخذ فى الاعتبار أن زمن الحرب الباردة كان له منطقه ومحدداته ومعاييره، وأن حكومات الخليج العربية، لأسباب اقتصادية وأخرى جيو استراتيجية، بجانب اعتبارات أيديولوجية، قد اختارت التحالف مع المعسكر الغربى فى تلك الحرب، كما أن إيران فى العصر البهلوى لم تكن مجرد جزء من التحالف الغربى، بل كانت موكولا بها لعب دور «شرطى الخليج» لحماية المصالح الغربية، وبالتالى كان من المنطقى أن تلجأ سلطنة عمان لاستدعاء الدعم العسكرى الإيرانى والدعوة لزيادة الدعم البريطانى لتحقيق «النصر» فى إقليم «ظفار» وإعادة دمجه فى أراضى السلطنة.

ولكن ما سبق بشأن فاعليات أحداث إقليم «ظفار» لم يكن إلا جزءا من الحكاية، أما استكمال الحكاية فيتمثل فى الاستراتيجية التى اتبعها السلطان الراحل قابوس فى أعقاب انتهاء الحرب فى الإقليم، والتى تمثلت فى مسارين:

أما المسار الأول، فهو إدراك ووعى السلطان قابوس بأن اندلاع الثورة فى إقليم «ظفار» فى المقام الأول فى مطلع ستينيات القرن الماضى وتعاطف قطاعات من الشعب هناك مع تلك الثورة ومطالبها كان له بالتأكيد أسبابه الداخلية، وليس مجرد تدخلات من أطراف خارجية، ومن تلك الأسباب تجاهل الإقليم ومطالب أهله وسكانه فى السابق وعدم اهتمام الحكومة المركزية فى مسقط بالاحتياجات الاجتماعية والمعيشية للسكان أو ببناء قاعدة اقتصادية قوية وقابلة للإدامة به. وبناء على ذلك، انتهج السلطان الراحل قابوس نهجا مختلفا قام على الاعتماد على التوازن والتكافؤ فى جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى تقوم بها الدولة فى مختلف مناطق السلطنة، وتزامن ذلك مع الحرص على تلبية احتياجات مختلف فئات الشعب العمانى، فى حدود ما تسمح به الإمكانيات والموارد المادية للسلطنة.

وفيما يتعلق بالمسار الثانى، فقد اعتمد السلطان الراحل قابوس سياسة استيعاب العديد من قيادات ثورة إقليم «ظفار»، بشكل فردى وانتقائى، فى الهياكل المؤسسية للدولة فى عمان، بل واختار منهم مسئولين فى مناصب رفيعة فى الدولة، بما فى ذلك مناصب الوزراء والسفراء وكبار المستشارين. واتسم هذا التوجه من السلطان الراحل ليس فقط ببعد النظر وشمول الرؤية من جهة السعى لإعادة اللحمة لتماسك النسيج الوطنى العمانى، ولكن أيضا توجه عملى للاستفادة من كفاءة وخبرات تلك الشخصيات المنتمية أصلا وتاريخيا لجبهة تحرير «ظفار»، والتى تمتع بعضها بتلقى تعليم رفيع ومتقدم فى عدد من أفضل جامعات العالم وكذلك تراكم قدرات مهنية لدى العديد منهم، مما صب فى خانة إفادة الدولة العمانية فى نهاية الأمر.

ويمكننى القول بقدر كبير من التيقن والثقة أننى على مدى زيارات عديدة قادتنى لسلطنة عمان على مدى ما يقرب من الربع قرن الأخير، أتيحت لى فرصة المشاهدة عن قرب ومتابعة التطورات التى شهدها ذلك البلد العربى الشقيق فى ميادين عديدة أسهمت بالتأكيد فى إيجاد حالة من النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى اتصفت بعدة خصائص، منها التخطيط والتناسق بين المكونات المختلفة لتلك النهضة ورفع درجة الوعى العام لدى المواطن العمانى، والعمل على حسن توظيف مصادر القوة للسلطنة على الصعيد الاقتصادى، ومنها مثلا الاهتمام الكبير بتعظيم دور قطاع السياحة فى الاقتصاد الوطنى، وكذلك إيلاء الاهتمام وتقديم الدعم للصناعات التقليدية، بعمقها الثقافى والتاريخى.

كذلك أتاحت لى تلك الزيارات الفرص للتعرف عن قرب أيضا على تقدم حالة الالتئام فى الجسد الوطنى العمانى نتيجة اتباع سياسات ممنهجة طويلة المدى لاستيعاب والتعامل الإيجابى مع مختلف الآراء ووجهات النظر الموجودة على الساحة العمانية، وذلك بصورة أدت إلى السعى للاستفادة من عطاء الجميع وإسهاماته واعتبار التنوع فى الرأى مصدر قوة، وهى سياسات أدت بدورها إلى تسهيل التفاف النخبة فى المجتمع بمكوناتها المختلفة وأطيافها المتنوعة حول القيادة السياسية للدولة ممثلة فى السلطان الراحل قابوس بن سعيد. وتزامن ذلك النهج مع الحرص على الرهان على الاستثمار فى تطوير الإنسان العمانى وحسن إعداده عبر آليات التعليم فى مراحله المختلفة والتدريب والبحث العلمى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved