ثورة جددت الآمال في النفوس

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الأربعاء 25 يناير 2023 - 3:07 م بتوقيت القاهرة

نقصد بالأقدار الإلهية تدابير الله التى يوجهها لعباده، وفيها نجد العِظَة للظالم والمظلوم معًا؛ الظالم يلقى عقابه، والمظلوم يلمس عنايته، ويرى الإثنان قدرته سبحانه على تحقيق عدالته فى الأرض، فلا يَيْئَس المظلوم من رحمته، ولا يتمادى الظالم فى ظلمه، وفى الوقت الذى يفقد فيه المظلوم الأمل يأتيه الفرج من حيث لا يتوقع: «وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ».
ربما هذه العدالة تتأخر كثيرًا، ويفقد البعض الأمل فى تحقيقها، ولكنها تأتى فى الوقت المناسب الذى يحقق الهدف المنشود، وبشكل غير متوقع، وفى الأثر الشعبى يقولون: «ربك يُمهِل ولا يُهمِل»، ولكن أفضل وصف فى قوله تعالى: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ»، ففى هذا بيان لأصحاب المكر السيئ بأن الله يرد مكرهم فى نحورهم، ويُخيِّب سعيهم، ويعاقب عليه عقابًا شديدًا، كما أنه يدبِّر أمر الصالحين والمظلومين، ويحفظهم من شرور الماكرين!
فى مقالنا هذا، نَقُصُّ على قارئنا الكريم قصة من الخيال، وأخرى من الواقع الذى يثبت فرضيتنا، وثالثة من الأحداث السياسية المُعاصرة.
القصة الخيالية تدور أحداثها فى فيلم «هذا جناه أبى» (1945) تأليف يوسف جوهر، وإخراج هنرى بركات، تورط فيها الشاب عادل (زكى رستم) المحامى مع أحلام (زوزو نبيل) فى علاقة عاطفية، ولما بدأ نجمه فى البزوغ، وبدأ أولى خطواته الحزبية، خاف على سمعته من تلك العلاقة، فقرر أن يقطع صلته بأحلام، ولكنها طالبته بالزواج، خصوصا أنها حامل، فعرض عليها كفالتها وطفلها ماديا دون زواج، مفضّلا الشهرة على من أحبته من قلبها، وسلمّته أغلى ما تملك، ورفضت أحلام عرضه، واختفت من حياته.
سافرت إلى القاهرة لدى واحدة من معارفها، الست عديلة (فردوس محمد) وزوجها حسنين (عبدالعزيز أحمد)، وروت لهما قصتها، فتقبَّلوها بحالتها، وأرسلت أحلام خطابا إلى عادل لتخبره أنه سيندم كثيرا عندما يعلم أن الحب أهم وأبقى من الشهرة، وتضع أحلام بنتًا جميلة أسمتها سميحة (صباح)، إلا أنها أسلمت الروح قبل أن تبوح باسم أبيها، وسجلها حسنين فى شهادة الميلاد باسم سميحة عبدالله لعدم معرفته باسم أبيها!
كَبُرَ عادل وأصبح محاميا مشهورا، وكبرت سميحة، وعملت فى مشغل، وذات يوم أخذت فستانا لتوصيله لمنزل ابنة أحد الأعيان وجيه بيه (سراج منير)، وتصادف إقامة عيد ميلاد ابنه الشاب سمير (صلاح نظمى) الذى أُعجب بجمال سميحة، فتعقبها وأقام معها علاقة حب، وتتكرر قصة الأم مع ابنتها، ويعلم والده بعلاقته بسميحة بعد أن رفض الزواج من قريبته، فعمل على سفره لفرع شركته ببيروت ليبعده عن محبوبته، ولكى يُحكِم خطته أرسل معه كامل أفندى ليمنع وصول خطابات سميحة له، فكانت جميع الخطابات يُعاد إرسالها إلى وجيه بيه، وذات مرة أرسل سمير تلغرافا إلى سميحة ليطمئن عليها حيث إنها لا ترد على خطاباته، ولكن كامل أفندى غيّر التليغراف ليكون طلبا منه بعدم الاتصال به وقطع العلاقة!
هكذا أحكم وجيه بيه خطته، ولكن العناية الإلهية تتدخل بسيناريو إلهى لا يخيب هدفه أبدًا؛ وقع فى يد حسنين خطاب من سميحة يكشف علاقتها بسمير، فيذهب إلى وجيه بيه طالبا زواج ابنه من سميحة، ولكنه يطرده من بيته، فيرفع حسنين عليه دعوى نسب، ويُوَكِّل وجيه بيه للدفاع عن ابنه سمير صديقه المحامى الكبير عادل الذى اتهم ــ فى المحكمة ــ سميحة بالسقوط والخطيئة، ولكنه يكتشف أنها ابنته عندما سمع رواية سميحة عن حياتها، فيتنحى عن القضية ليرتد إلى ذاته!
يتغير موقف المحامى عادل، ويطلب من وجيه بيه صديقه أن يُصحح خطأ ابنه، ولكن وجيه يواجهه بأنه لم يعترف بابنته، فيذهب عادل للمحكمة كشاهد، ويعترف بابنته، ويُصحِح خطأه، ويُطالب سمير بتحكيم ضميره، فيعترف الأخير بخطئِه ويتزوّج سميحة، ويعود الحق للمرحومة أحلام، ولابنتها سميحة التى تسترد كل حقوقها وكرامتها ونسبها بفضل سيناريو إلهى يُصيب أهدافه بدقة!
• • •
ومن الواقع الاجتماعى، نقل لنا الصحفى المرموق المرحوم عبدالوهاب مطاوع، فى العقد الأخير من القرن الماضى، قصة حقيقية نشرها فى «بريد الجمعة» بجريدة الأهرام، تدور أحداثها حول صبى مراهق ولد ولم يرَ أباه الذى كان قد طلق أمه، ومنعته أمه من رؤية أبيه وأهله، وعندما كان يسأل عن أبيه كانت إجابتها أنه مسافر، وزرعت فى وجدانه صورة سيئة عن أبيه، وقطعت كل السبل عن أبيه وعائلته، واتبعت المشوار التقليدى فى المحاكم، وبسبب كثرة الدعاوى ضده، قرر الأب الهجرة لخارج الوطن، وأوصى عائلته بألا يخبروا أحدًا عن مكانه حتى لا تلاحقه مطلقته بالقضايا، هكذا أحكمت الأم تدبيرها، وتحققت لها أمنيتها بقطيعة كاملة مع الأب!
ولكن للعناية الإلهية رأى آخر، كان الصبى ملتحقًا بإحدى المدارس بالحى السكنى التابع له، وفى أحد الأيام تشاجر مع أحد زملائه فى الفصل، وكان زميله جاره أيضا، وبالتالى كان يعرف أشياء عنه سمعها من أبويه، فعايره بأنه ليس له أب، وأنه ابن حرام، وبما أن الصبى لا يعرف شيئًا عن أبيه دخلت الشكوك فى قلبه، وأحدثت التهمة شرخًا كبيرًا فى نفسه!
وبعد انتهاء اليوم الدراسى، عاد الصبى لبيته منزعجا، وطرق الباب بقوة، فتحت أمه الباب، وسألته عن سبب هذا الخبط العنيف، فكانت إجابته صارمة: «أين أبى»؟، فأكدت له أنه مسافر، وبسؤاله عن مكان سفره، ردت أنها لا تعرف فى أى بلد، فسأل عن أسرة أبيه: أعمامه وعماته وأجداده، كانت الأم قد قطعت كل السبل عن عائلة طليقها، وكانت الدنيا تغيرت فى حوالى خمسة عشر عاما، وفقدت عناوينهم جميعًا، فردَّت أنها لا تعرف شيئا عنهم، زادت الشكوك فى قلب الصبى، واستمر فى أسئلته حول وظائف أعمامه أو عماته حتى يذهب لأحدهم فى مكان عمله، ولكنه لم يجد ردًا واحدًا على أى من أسئلته!
أصيب الصبى بصدمة نفسية كبيرة؛ امتنع عن الذهاب إلى المدرسة، وأغلق على نفسه باب حجرته، ورفض تناول الطعام... وأصيب باكتئاب، عرضته أمه على أطباء كثيرين، ولكن دون جدوى، وأبلغوها أن العلاج الوحيد الذى ينقذ الصبى الذى تدهورت صحته البدنية والنفسية أن يجد أباه أو على الأقل يتعرف على أحد أفراد أسرته، ولما كان هذا مستحيلًا، انهارت الأم لعجزها عن إيجاد حل، إلا أن أحد المعارف نصحها بأن ترسل للأستاذ مطاوع قصتها لعله يستطيع مساعدتها.
نشر الأستاذ مطاوع القصة باسم الأب، وطلب من قُرّائه إبلاغ بريد الأهرام إذا تعرَّف أحد عليه، وبالفعل اتصل أحد أصدقاء الأب بأحد المراسلين فى كندا، وأبلغه عن عمل الأب وتليفونه، وعلى الفور تواصل المندوب مع الأب الذى ما إن عرف الموضوع فهاج وماج، ورفض استكمال المكالمة لولا أن مندوب الأهرام أكد له أن أحدًا لن يعرف شيئًا عنه إلا بإذنه، كما أخبره بأن ابنه فى حالة خطيرة، وحكى له ملابسات القصة بأكملها، وكانت النتيجة أن تواصل الأب والابن بواسطة الأهرام، فكان أول اتصال بين الأب وابنه مليئا بالمشاعر الفياضة والبكاء الذى أصاب أيضا زوجة الأب الكندية وأبناءهما الإخوة غير الأشقاء للصبى، هكذا عادت العلاقات لطبيعتها، وذلك بفضل سيناريو إلهى يُصيب أهدافه بدقة!
• • •
وعن السيناريوهات الإلهية فى عالم السياسة، أصاب العالم العربى قبل 2010 شيخوخة؛ كان الرؤساء جميعًا تعدوا سن الثمانين، كما استمر حكم كل منهم من ثلاثين إلى أربعين عامًا، وكان الفساد والاستبداد والاستهتار بمستقبل وشباب شعوبهم.. عوامل مشتركة بين معظم الأنظمة الجمهورية، فكان لا بد من «ربيع عربى» يعصف برياحه وزعابيبه كل ما تبقى من عهود شائخة، فلقد غابت عنهم سنة الله فى أرضه بأن الحياة تقوم على التغير والتبديل، وأن الدوام لله وحده، تحقيقًا لقوله: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ»!
سعى كل الحكام لتنفيذ توريث الحكم لأبنائهم، مثلما حدث فى سوريا، وعبَّروا بكل الوسائل عن نيتهم لتحويل نظم بلادهم إلى «جمهوملكيات»؛ كان بين الزعماء عهود ضمنية للحفاظ على هذه الأوضاع، ووضعوا كل الخطط لتحقيق أغراضهم، فأحكموا خططهم بتعديل الدساتير، وأعدوا العُدد والعتاد لتنفيذ أهدافهم، وكانت مصر أول دولة مُرشَّحة للتغير، إلا أن العدالة السماوية تدخلت بأقدارها المُعَجِّزة، فقامت ثورة محمد بوعزيزى فى تونس الذى أشعل النار فى نفسه، ثم تطايرت نيرانه ــ مُتخطية الجارة ليبيا التى حوَّلها حاكمها إلى إحدى بلاد الموز ــ متوجهة مباشرة إلى مصر لتشعل ثورة 25 يناير 2011، وفى ذلك حكمة إلهية لأن الثورة لو أنها قامت فى ليبيا قبل مصر لحاربها الرئيس الأسبق مبارك، وما كان لنظام الديكتاتور القذافى أن يسقط أبدا، ولربما كان سيلقى مبارك من نظيره الليبى دعمًا ماليًا كبيرًا يُدبِّر به أوضاعه فى مصر، ويُمَكِّنه بمزيد من الاستبداد، ولكن السيناريو الإلهى الذى لا تخيب أهدافه أبدا أراد هذا الترتيب لتنطلق الثورات بسرعة البرق بعد ذلك من مصر إلى ليبيا وسوريا واليمن ثم السودان..!
فمصر هى القيادة والإلهام للعالم العربى، ومصدر كل قوة وجديد وتحرير لأشقائها،
ودرة الشــــــــرق.. رعاها الله مادام وجــود
ورعــا شعبها.. عريق المجد موفـــــور الإباء
(مع الاعتذار لتغيير بعض الكلمات لقصيدة الشاعر أحمد خميس فى قصيدته «الروابى الخضر«، والتى تغنى بها موسيقار الأجيال باسم «ليالى الشرق»)!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved