عن التوقعات والانطباعات وتنبؤات الاقتصاد
محمود محي الدين
آخر تحديث:
الأربعاء 24 يناير 2024 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
مع نهاية عام وبداية آخر تكثر التقارير المتنبئة بتغيرات الاقتصاد، وتتبارى الجهات المصدرة لها فى استعراض نتائج توقعاتها، فتستعين بخبراء متخصصين وتجرى مسوحا للرأى واستقصاءات للانطباعات. ونعلم أن التوقعات تصيب وتخطئ، كما أن الانطباعات أسيرة ما يراه أصحابها. فنماذج التوقعات لا تخلو من انحياز وتعانى أوجه قصور فى استيعاب الماضى وإدراك مستجدات الحاضر. وفى عالم سريع التغير يزيد اختلاف التوقعات عما ترصده فى الواقع، وبعقد مقارنة سريعة لتوقعات الأمس عن حاضر اليوم يتأكد هذا دون عناء، إلا ما كان من قبيل المصادفة أو فى حالات محددة لاستشراف ظواهر أو خصائص أو متغيرات معينة لا تتعرض لصدمات تعيد تشكيلها، أو تتمتع بمتانة تعينها على احتواء هذه الصدمات. أما الانطباعات بداهة فهى مزيج من خبرة الشخص ومحيطه، ومدى إتاحة المعلومات والقدرة على التحليل الموضوعى.
ولا تنتشر هذه التقارير والإقبال عليها من باب الاعتياد فحسب، ولكن لتأثيرها فى اتخاذ القرارات على مستوى الحكومات والمؤسسات العامة والخاصة والأفراد، كما يتزايد اللجوء إليها مع زيادة المخاطر. وقد تستخدمها جهات بعينها للتأثير على الأسواق أو لتشكيل الرأى العام لتحقيق مصالحها. كما أن من النبوءات ما يصنف، وفقا لعالم الاجتماع روبرت ميرتون، بأنها ذاتية التحقق من خلال التأثير على السلوك الدافع لتحقيقها فعلا. كأن يروج مثلا لإفلاس مؤسسة، أو تزايد التضخم بالمبالغة فى تصوير تأثير أحداث أو تغيرات معينة ذات دلالة، ومع غياب المعلومات الموثوقة لعموم الناس ينتهى الأمر لما كانت تخشى عواقبه.
وعودة لأمثلة من التقارير الرائجة، فقد استعان المنتدى الاقتصادى العالمى بدافوس، بخبراء بلغ عددهم 1490 ينتمون إلى مؤسسات أكاديمية، خاصة وحكومية ومنظمات غير حكومية فى تصنيف المخاطر العالمية، فجاء التصنيف على النحو الآتى من حيث الأهمية فى الأجل القصير: 1) التضليل المعلوماتى، 2) التغيرات العنيفة فى الطقس، 3) الاستقطاب المجتمعى، 4) مخاطر الأمن السيبرانى، 5) الصراعات المسلحة، 6) محدودية الفرص الاقتصادية، 7) التضخم، 8) الهجرة الاضطرارية، 9) الانكماش الاقتصادى، 10) التلوث.
ولا يأتى تقدير «أكسا»، كإحدى شركات التأمين العالمية التى تقوم بالتنبؤ بالمخاطر العالمية ومحاولة تسعيرها، بعيدا فى مجملها عن تنبؤاتها السابقة فى العامين الماضيين مع تفاوتات بين الأقاليم الجغرافية. وتقوم المؤسسة المالية بتقدير المخاطر من خلال تقديرات مجمعة من 3500 من خبراء إدارة المخاطر من 50 دولة، فضلا عن استطلاعات رأى تجاوب معها ما يتراوح بين 24 ألفا و26 ألفا من 15 دولة لتسمح بمقارنات إقليمية ودولية. وجاء ترتيب المخاطر من حيث الأهمية على النحو الآتى: 1) تغيرات المناخ، 2) مخاطر الأمن السيبرانى، 3) اضطراب جيو ــ سياسى، 4) مخاطر الذكاء الاصطناعى وقواعد البيانات الكبيرة، 5) مخاطر الطاقة، 6) مخاطر متعلقة بالموارد الطبيعية والتنوع الطبيعى، 7) مخاطر مالية، 8) توترات اجتماعية، 9) أوبئة وأمراض معدية، 10) مخاطر الاقتصاد الكلى.
وبمحاولة التعرف على ما يحدق بالعالم العربى من مخاطر، تجده متفرقا فى التصنيفات الدولية بين أفريقيا وآسيا، تأتى تغيرات المناخ فى التصنيفات الجغرافية جميع يليها الأمن السيبرانى متراوحا بين المرتبة الثانية آسيويا والثالثة أفريقيا؛ إذ تسبقه فى دول القارة السمراء من حيث الأهمية مخاطر الاستقرار المالى، ثم تأتى المخاطر الاقتصادية الكلية وتلك المتعلقة بالسياسات النقدية والمالية فى المرتبتين الرابعة والخامسة. وتتمم قائمة المخاطر الخمس الكبرى فى آسيا مخاطر الذكاء الاصطناعى وأمن البيانات؛ والمخاطر التى تعترض الاستقرار المالى.
جدير بالذكر، أنه إلى جانب آراء الخبراء يستخدم تقرير المنتدى الاقتصادى مسحا لآراء وانطباعات أكثر من 11 ألفا من قيادات الأعمال فى 113 دولة لتوضيح الأولويات والتحديات المحلية فى هذه الدول ومدى توافقها مع الانطباعات عن المخاطر العالمية. وضم المسح 12 دولة عربية شملت كل الدول الست الأعضاء فى مجلس التعاون الخليجى، والأردن، والجزائر، والعراق، ومصر، والمغرب واليمن. وفى ترتيب المخاطر الخمسة الأولى جاءت انطباعات قيادات الأعمال فى البلدان العربية مشتركة فى مخاوفها من التضخم والبطالة وتراجع النمو مع اختلاف من حيث ترتيب الأهمية بين دولة وأخرى. واشتركت انطباعات قيادات الأعمال فى البلدان العربية الأكثر دخلا مع ما ورد من انطباعات لبعض دول منظمة الاقتصادى والتنمية والدول ذات الأسواق الناشئة الكبيرة مثل اكتراثهم بمخاطر الذكاء الاصطناعى والأمن السيبرانى والأمراض المعدية. أما البلدان العربية متوسطة الدخل والأقل دخلا فقد تقدمت فى قوائمها التحديات الاقتصادية المتمثلة فى الديون وتفاوت الدخول والثروات وتقلب أسعار الطاقة، فضلا عن شح المياه وتأثير الصراعات المسلحة عبر الحدود على المجتمع والاقتصاد.
ويأتى تقرير البنك الدولى عن آفاق الاقتصاد العالمى، الصادر فى مطلع هذا العام، معززا للانطباعات المتحسبة من تراجع النمو وعدم اكتمال التعافى الاقتصادى، رغم تزايد احتمالات ما يطلق عليه «الهبوط الناعم» فى الدول ذات الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة بمعنى السيطرة على التضخم دون زيادة البطالة بركود اقتصادى. أما البلدان النامية، فهى تعانى تراجع معدل نمو الناتج المحلى وانخفاض معدل الاستثمار عن نصف متوسطاتها فى العقدين الماضيين. ومع انخفاض صافى التدفقات المالية إلى البلدان الأقل دخلا إلى الصفر السنة الماضية، مع زيادة تحديات المديونية الخارجية فى البلدان النامية وتراوحها بين مشكلات سيولة وأزمات تعثر وعدم قدرة على السداد تتسع الهوة بين تحقيق أهداف التنمية المستدامة مع نهاية هذا العقد وما هو متاح فعليا للبلدان النامية من موارد. وحتى تأتى قمة المستقبل للأمم المتحدة، التى ستعقد فى سبتمبر (أيلول) المقبل، بالنتائج المرجوة واستعادة مسيرة التنمية المستدامة، يجب أن ينتشل التعاون الدولى بداية من القاع المتدنى الذى صار إليه بالتفتيت الاقتصادى وزيادة حدة الاستقطاب جراء تنامى الصراعات الجيو ــ سياسية.