تعديل الهوانم

وحيد حامد
وحيد حامد

آخر تحديث: الأربعاء 24 فبراير 2010 - 10:09 ص بتوقيت القاهرة

 كيف تأتينا المصائب..؟

سؤال يداهمنا جميعا فى ساعات الشدة والضيق والضجر، وسرعان ما تتلاحق توابع السؤال.. من أين تأتينا المصائب؟.. وهل هناك من يكون مساهما فى صنعها؟.. ومن أجل ماذا؟..

فى لحظات شرود وتأمل وأنا أتابع أحوال الدنيا من حولى، وجدت نفسى أعود إلى الماضى القريب وأتذكر الدستور المصري قبل عام 1980.. لم يكن سيئا في مجمله، وكان ينص صراحة على أن مدة رئاسة الجمهورية فترتان لا ثالث لهما، ومدة كل فترة ست سنوات، وبهذا يضمن الدستور تداول السلطة، وهذا ما يحدث فى غالبية بلاد الدنيا، إلا أن مصر المحروسة خرجت من هذه الغالبية بإرادة مجموعة من السيدات بزعامة السيدة فايدة كامل، وبمساندة الدكتورة زينب السبكى والأستاذة فاطمة عنان.

ويزعم البعض أن الأمر كله من تدبير السيدة الأولى فى ذلك الوقت «جيهان السادات»، لأن السيدات الأوليات يفضلن الاستمرارية.. والسيدة فايدة كامل ــ أمد الله فى عمرها ــ مطربة شعبية ومن أغنياتها الشهيرة «يا واد يا سمارة» و«أنا بنت ستاشر سنة»، ثم صارت نائبة فى مجلس الشعب الموقر، بالإضافة إلى أنها زوجة اللواء نبوي إسماعيل وزير الداخلية فى ذلك الوقت.. وكانت ضمن حاشية السيدة الأولى..

هذه السيدة «الفاضلة» وقفت في مجلس الشعب، وطالبت بأن يكون الرئيس السادات ــ رحمة الله عليه ــ رئيسا لجمهورية مصر العربية مدى الحياة.. حدث هذا قرب انتهاء مدة الولاية الثانية.. وحدث التصفيق الحاد والتهليل والموافقة، ولكن كيف يحدث ذلك والدستور يمنع ويحول؟.. ولأن الدستور في عرف البعض.. ليس كتابا مقدسا وهو من وضع البشر،فعليهم تطويعه وتعديله حتى يلبى الرغبات السيادية.. وتم التعديل.. وتم النص على أن تكون «مدد متعددة» أى مفتوحة وإلى ما شاء الله.. ولأن الشعب المصري يعشق السخرية من الأحوال المائلة، فقد أطلق على هذا التعديل.. تعديل الهوانم..

لم تفكر السيدة فايدة كامل والفريق الذى معها.. وأيضا لم يفكر المجلس بكامل أعضائه فى عدة أمور أساسية وجوهرية..

أولها: أن فكرة الرئيس لمدى الحياة فكرة عقيمة وسقيمة، وأن الأعمار قد تطول وقد تقصر، فهى بيد المولى عز وجل (ولا تدرى نفس ماذا تكسب غدا ولا بأي أرض تموت)، وفى حالة إن طالت الحياة بالإنسان، فإن سنوات الشيخوخة وأمراضها تجعله غير قادر على إدارة شركة، فما بالكم فى إدارة دولة..

ثم إن الإنسان فى شيخوخته يحتاج إلى الراحة بعد عناء سنوات العمر، من الثابت علميا وطبيا أن الإنسان فى شيخوخته تتضاءل قدراته، وتتخبط أحكامه، وتضعف قدراته الذهنية.. إذن فمسألة الحاكم مدى الحياة تلحق الأذى بالحاكم قبل المحكوم..

الأمر الثانى: أن السيدة النائبة فايدة كامل وسائر النواب والنائبات لم يكونوا أبدا نوابا عن الشعب فى المجلس الموقر، ولكنهم كانوا نوابا عن السيد الرئيس، الذى أراد أن يستمر رئيسا للجمهورية مدى الحياة، فجاء أمر الله الذى لا يرد، ويموت الرجل دون أن يحصل على ما سعى إليه.. رحل السادات رحمة الله عليه.. وانزوت السيدة جيهان وابتعدت عنها الأضواء. والسيدة فايدة كامل تعيش الوحدة، وتعانى رتابة الحياة بعد رحيل شريك حياتها، وكلهم لم يحصلوا على أى شىء يعد ثمنا لهذا التخريب المتعمد للديمقراطية..

هم لم يكسبوا شيئا، بينما خسر الشعب..

وهنا لا يفوتنا الحديث عن هذا المجلس الموقر الذى كان يتصدى بكل حسم وحزم لأى مساس بالدستور، أو ضياع حق من حقوق الشعب، وذلك فى عهد ما قبل الثورة، فما بال المجالس المتعاقبة بعد الثورة تتعامل مع الدستور وكأنه مقال فى جريدة حكومية لكاتب مبتدئ يخضع لقرارات رئيس التحرير ورؤيته، يحذف منه ما يشاء، ويضيف إليه ما يشاء.. أو اعتباره مثل قانون الإسكان يتم التغيير فيه حسب مصالح تجار الأراضى وشركات المقاولات..

التعامل مع الدستور بهذا القدر من الهوان نذير شؤم وضياع.. الدساتير هى التى تحمى الشعوب من فتك أى سلطة باغية.. وهى التى توفر الحماية للحقوق والممتلكات، وهى ضمان الحرية وحارس العدالة..

وعليه، فإن المواد الموجودة بالدستور والتى هى خلايا سرطانية تحول دون تحقيق حرية كاملة.. وديمقراطية كاملة.. وعدالة كاملة.. يجب أن يتم استئصالها حتى تعود إلى الدستور صحته وعافيته..

الدساتير تحمى الشعوب من عبث الحكومات والحكام، وتصون الحريات بكل أنواعها.. ولا تكون وسيلة لفرض إرادة الحكام.. والتعديلات التى جرت على الدستور فى العام الماضى لا تليق بهذه الأمة.. ولا تليق بمن فكروا فيها، أو خططوا لها، وبالتالى الذين قاموا بالتنفيذ والذين قاموا بحملات الترويج والتجميل، ومعلوم وثابت أن القرد سيظل قردا ولن يكون غزالا حتى لو تولاه أعظم أطباء التجميل.

والمؤسف حقا أن تعديل الهوانم هذا تحول إلى مرض معد، حيث أصاب عدة جمهوريات عربية شقيقة بعد أن أصبحت مصر هى القدوة لها فى هذه النقيصة، تونس.. الجزائر.. اليمن.. السودان.. سوريا.. أصبح السادة الرؤساء ملوكا بلا تيجان..

والحكام دائما وأبدا هناك من يوسوس لهم بالشر فى غالب الأحيان، وأصحاب المصالح والأطماع هم دعاة الظلم والرجعية، وهم ضد أى تقدم إنسانى أو حضارى أو علمى، وغالبا لا تقع مسئولية الظلم وكبت حرية الشعوب على عاتق الحاكم وحده، إنما تقع أيضا وبالضرورة على عاتق الذين ناصروه وامتدحوه ونافقوه، والقرآن الكريم يقول: (إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)

فالله - سبحانه وتعالى - يفرض العقاب على الجميع فى هذه الحالة.. الظالم ومن قبل بالظلم ولم يقاومه، وعشاق قراءة التاريخ يعلمون أن هناك بعض الملوك والسلاطين كانوا يفرضون الجهل على رعاياهم حتى يضمنوا طاعتهم، وليس الجهل فقط ولكن الفقر أيضا، وربما يكون هذا الأمر مستمرا حتى الآن فى بلاد قد نعرف بعضها ولا نعرف بعضها..

أما بالنسبة لنا، ففى صدرى حلم.. وربما يكون خيال مؤلف ليس إلا.. ماذا يحدث فى مصر المحروسة لو أن هناك دستورا جديدا يعمل عليه المخلصون بحق وصدق من أجل صالح هذا البلد.. فقهاء القانون والدين والعلماء وأهل الفكر والرأى ورجال السياسة والاقتصاد، دستور يحمى هذا البلد من هوى القلة المفترية، دستور يرفع الحواجز والقيود.. لو حدث ذلك فستكون الدنيا فى مصر غير الدنيا التى هى عليها الآن.. والله المستعان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved