طنجرة ضغط

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 24 مارس 2012 - 9:25 ص بتوقيت القاهرة

الأغانى الحزينة فى أى بلد هى بداية النهاية لنظام الحكم مهما بدا عظيما أو مستقرا، فانتشارها بين الناس معناه أنه فى طريقه للسقوط، هكذا يقول مثل صينى قديم. فى مصر مثلا كنا نستغرب مدى حب الكثيرين خاصة فى الأوساط الشعبية لمواويل البكاء والنواح جنبا إلى جنب مع أغانى «هز الوسط»، وفجأة هب الشعب ليسخر من الحاكم ويلعن ذكراه فى الميادين. أما فى سوريا فقد قرر البعض، منذ عام بالتمام والكمال، أن يتحدى ثقافة الصمت بالغناء، كما لو كان يعلن انتهاء مرحلة الخوف والأحاديث الهامسة، وفى الفترة من 15 إلى 22 مارس أى منذ أيام قليلة احتفل الناس بمرور عام من الغناء والثورة تحت زخات الرصاص بالعديد من الساحات السورية، فأهم ميزات الحراك الثورى هناك أنه تحول إلى أسلوب حياة: رقص وغناء وحماسة، وتميزت المظاهرات بأسلوبها الفنى الذى يشارك فيه الجميع. قد نختلف أثناء النقاش، لكن تظل الأغنية واحدة، تحملنا كموجة واحدة أو كخيط كهربائى عالى التوتر، على حد تعبير المطرب السورى الشاب وصفى المعصرانى الذى يوجه أغنياته الحزينة للفئة الصامتة والناس الرماديين والمؤيدين للحكم علهم يشعرون بمآسى العائلات المنكوبة، فى مقابل أغنياته الحماسية التى يهديها للثوار ليدعمهم معنويا. تعاون هذا الأخير مع شاب آخر من حمص وهو عبدالباسط ساروت الذى صار رمزا، ولقب بمنشد الثورة فى حمص، حتى أصبح الآن من المطلوبين للأمن بسبب صوته، ورصدت السلطات 2 مليون ليرة سورية للقبض عليه، ويظل يردد على موقع اليوتيوب «أنا مش سلفى»، نافيا أن يكون محركو الثورة هم فقط من الإسلاميين كما يزعم البعض، ونجد على الموقع نفسه تسجيلات لأغنيات اشتغل عليها مع المعصرانى بشكل محترف مثل «جنة جنة» و«حرام عليه». ومن حمص أيضا يأتينا صوت آخر باسم «صقر حمص» ليغنى مؤكدا المعنى نفسه بشكل ساخر ولهجة أقرب للمصرية: «أنا حمصى ومرتى حمصية.. أنا طالع مظاهرة يا عينية.. حماتى ثورجية مندسة وسلفية».

 

أحيانا يأخذ المتظاهرون أغنيات جاهزة ويستخدمونها بشكل جماعى، ربما مع تعديل وتبديل الكلام، وأحيانا أخرى يرسل الثوار على الأرض بالكلمات أو اللحن لفنان معين ليستلهم أصواتهم وما يريدون التعبير عنه بالضبط. وبمناسبة مرور عام على الثورة تنوعت التوزيعات الجديدة لأغنية «ياللا ارحل يا بشار» للراحل إبراهيم قاشوش، الذى قتله شبيحة النظام بحماة وانتزعوا حنجرته، وقام الموسيقى مالك جندلى بتحويلها مؤخرا إلى سيمفونية احتفاء بذكراه، فقد أصبح للثورة السورية أيقوناتها الغنائية دون شك.

 

تمتزج الأغانى التراثية بالموسيقى الشعبية أو الفلكلور والموسيقى الدينية المحلية والإيقاعات المدهشة التى تنجم عن استخدام بعض أدوات الطبخ مثلا خلال المظاهرات، فى تأكيد واضح على الهوية كما فى العديد من التجارب القومية الموسيقية. ويركز بعض الفنانين الشباب على فكرة الضغط الذى يؤدى إلى الانفجار، فيعرف بعضهم نفسه على أنه نتاج هذه الحالة ويترجمها موسيقيا كفريق الروك «طنجرة ضغط» أى وعاء الطبخ بفعل ضغط البخار المتزايد على شاكلة أوانى «سب» الشهيرة. وفى الاتجاه الساخر نفسه يسير وائل القاق مبدع أغنية «القاظان السورى» أو سخان المياه، فالقاظان الموجود فى معظم الحمامات أصبح رمزا للمواطن الذى يمكن أن يتكلس أو ينفجر مع الضغط.. أسبوع واحد قضاه القاق فى السجن كان كفيلا بأن يعمق خياره الشعبى، معتمدا فى تمرده على أفكار بسيطة وساخرة.. حاله كحال فريق «نص تفاحة» الذى لا نعرف عنه الكثير سوى أغنيات طريفة وذكية صورت بطريقة الجرافيك مثل «هس.. اخرس أحسن لك أو خفف كلام.. لو فكرت تزيد الحكى بنعرف كيف نذلك»، أو دعوتهم الصريحة للإضراب من خلال «محل زغير ومسكر» أو فيديو آخر يحكون فيه ما الذى حدث فى شهر مارس، بعنوان «لو تعرف شو اللى صار بليلة من آذار»: (قامت ثورة اتحدت الأمن اللى قتل الشعب اللى قِرف الظلم اللى صبغ الحكم اللى استلمه البعث اللى سرقه الجحش اللى اسمه حافظ)، لخصت الأغنية تاريخ البلاد منذ تولى حافظ الأسد الحكم رسميا فى 12 مارس 1971 «بعد حصوله على 99.2% من الأصوات!».

 

فكرة مواجهة الدبابات بالغناء تذكرنا بثورة أخرى اندلعت فى جمهوريات البلطيق الثلاث (استونيا ولاتفيا وليتوانيا) بدأت إرهاصاتها مع وصول جورباتشيف إلى السلطة فى 11 مارس 1985 خلال فترة صعبة على الاتحاد السوفييتى السابق، مع تصاعد التضخم وتراجع النمو. اضطر هذا الأخير إلى مواجهة الانهيار بتطبيق البريسترويكا (إعادة البناء) والجلاسنوست (الانفتاح وحرية التعبير)، وانعكست التغيرات الاجتماعية على المزاج الشعبى بما ألهب المشاعر القومية والتعددية، وظهر ذلك بوضوح من خلال الفنون والآداب. وبشكل تلقائى خلال أحد المهرجانات الموسيقية تجمع الآلاف وقاموا بغناء بعض الأناشيد الوطنية الممنوعة طوال حكم السوفييت، واصلوا الغناء حتى الصباح رافعين أعلامهم القديمة التى أخفوها طوال 50 سنة منذ بداية الاحتلال وضمهم للاتحاد. وشهدت البلاد تظاهرات تقدمتها فرق موسيقية، وتكرر الأمر نفسه فى مايو 1988 خلال مهرجان آخر لموسيقى البوب حيث أمسك الجمهور بأيادى بعضه البعض وأخذ يغنى.. وتوالت المهرجانات التى كانت المكان الأهم للتعبير عن المشاعر الوطنية حتى أصدر برلمان استونيا وثيقة إعلان السيادة، واستمرت «ثورة الغناء» أو الثورة الغنائية، كما يصطلح على تسميتها لمدة 4 سنوات. ولولا سقوط بعض القتلى والجرحى فى مناوشات مع القوات السوفييتية لأمكن القول إن الثورة الغنائية كانت سلمية بالكامل، ولكن مع الأسف لا ينطبق ذلك على الثورة السورية التى يغنى فيها الناس ويسقطون قتلى كل يوم برصاص جيشهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved