رسائل فى وداع البابا شنودة

سامح فوزي
سامح فوزي

آخر تحديث: السبت 24 مارس 2012 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

لم يعد هناك كثير ليقال بشأن وداع البابا شنودة الثالث، فقد تابعت محطات التليفزيون، والصحف، والمواقع الإلكترونية المناسبة المهيبة عن كثب، ودبج كثيرون المقالات، بعضها عن الرجل ومآثره، ودوره المشهود والقلق من اختفائه عن المشهد فى هذه اللحظات السياسية الملتبسة، والبعض الآخر دخل فى مساجلات ساخنة حول تصريحات ومواقف أقل من مستوى الحدث. لكن فى الحالة الجنائزية التى سادت المجتمع معان، ورسائل ينبغى التقاطها، وقد تقودنا فى النهاية إلى التفكير النقدى فى حالنا أكثر من الانخراط فى رثاء رجل يصفه الجميع بأنه «أدى رسالته». 

 

 

(1)

 

الرسالة الأولى أن لوعة الناس، مسلمين ومسيحيين لرحيل البابا شنودة، والتى وصف البعض جنازته بأنها أول جنازة شعبية يعرفها المجتمع منذ سنوات طويلة، لا تفسرها فقط «المشاعر الحزينة» على فراق شخصية آسرة تواصلت مع الجمهور العريض بعمق وبساطة فى آن واحد، أو القلق على مستقبل قريب كان يود سكان المحروسة أن يوجد بينهم هذا الحكيم الذى وأد فتنا سابقة، وهدأ مشاعر غاضبة، وتجاوز مواقف حادة، ولكن أيضا شعور دفين مستبطن بأن ورقة أخرى سقطت من شجرة الثقافة المصرية يصعب استعادتها. من يودع مجتمعنا لا يأتى غيره على شاكلته، فى حين أن طبائع الحياة تقتضى بأن يكون كل جيل أكثر تقدما من الجيل الذى سبقه بفعل القدرة على الاطلاع على الجديد فى العلم وأدوات التواصل والإتاحة الثقافية. رحل البابا شنودة، ورحلت قبله شخصيات فذة أعطت فى مجالات متنوعة منها الشيخ محمود شلتوت، عبد الرازق السنهورى، عبد المنعم رياض، طه حسين، نجيب محفوظ،  جمال حمدان، شفيق غربال، ثروت عكاشة، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، يوسف وهبى، نجيب الريحانى، عزيز صدقى، أبو سيف يوسف، إبراهيم فرج، محمد حلمى مراد، ممتاز نصار وآخرون، كل ترك بصمة فى مجال عمله، وبخل التاريخ بمثله، وبدأنا نختبر أشكالا من التدهور الثقافى، والتداعى المهنى فى العمل العام، وتراجع القدرات الذهنية والذوق الإنسانى عند أجيال لاحقة حباها القدر بفرص لم تتح لأجيال سابقة فى التعلم واكتساب المهارات. وبالتالى ليس مستغربا أن يحرك الجماهير دافع مستبطن للحزن على رحيل شخصية رفيعة المستوى لأن تجربتهم تشير إلى أن مثلها لا يأتى سريعا، وقد لا يأتى على الإطلاق. الشخصيات الفذة فى الخبرة المصرية تشكل وجدانها فى عهود سابقة كان المجتمع فيها أكثر حرية، ورقيا، انفتاحا وثقافة، وتعليما وتهذيبا. بدأت مسيرة التراجع تضرب بشدة المجتمع المصرى فى العقود الأربعة الأخيرة، واستطاع نظام مبارك ــ ببراعة ــ أن يجرف المجتمع ثقافيا، ويخنقه بالاستبداد السياسى. غاب المبدعون، وتراجع مستوى الانتاج الثقافى والعلمى، وظهرت أجيال من الأميين ثقافيا، وربما ابجديا. يكفى أن نلقى نظرة على تعليقات المواطنين المنشورة على المواقع الإلكترونية حتى نتبين كم وكيف التراجع الثقافى الذى أصاب المجتمع فى الوقت الذى يفترض فيه أن هؤلاء المواطنين هم الأجدر على استخدام أفضل مكتسبات العصر ــ التواصل الإلكترونى؟

 

فى المجتمعات المتقدمة الإبداع الثقافى مستمر لا ينقطع. فى كل مجال هناك أمواج متلاحقة من المبدعين. كلما سقطت «ورقة» من شجرة الثقافة العامة نبتت غيرها. الإبداع شرط من شروط البقاء فى مجتمع ديناميكى لا يعرف الجمود أو الثبات فى المكان. الدليل على ذلك أن هناك مبدعين فى مراحل متقدمة من العمر، وهناك أيضا مبدعون شباب يقدمون إنتاجهم الثقافى، ويطرحون اجابات على تحديات العصر، ولهم التأثير والحضور فى المجتمع.  للأسف ليس هذا هو حال المجتمع المصرى.

 

 

(2)

 

الرسالة الثانية هى الإدراك المصرى العميق لمفهوم التعددية الدينية أو التعددية الثقافية. لم يعتبر القطاع العريض من المجتمع المصرى أن رحيل البابا شنودة شأن دينى خاص بالمسيحيين، بل اعتبروه شأنا عاما يخص كل المصريين، وانشغلوا بمستقبل الكنيسة، بوصفها مؤسسة وطنية، أكثر من كونها مؤسسة دينية. سبق المواطن المسلم العادى النخبة، لم ينتظر «تعليمات دينية» تحكم سلوكه تجاه شريكه فى المواطنة القبطى، تشهد بذلك سرادقات العزاء التى أقامتها مساجد وشخصيات إسلامية فى محافظات الجمهورية. المشاعر «التلقائية» التى عبرت عن نفسها فى هذه المناسبة تثبت أن المصريين لديهم الوعى الحضارى المتعمق بالتعددية. هذه رسالة شعبية مباشرة للقوى السياسية ينبغى أن تعيها، وتدرك مغزاها، وتسعى إلى استثمارها خاصة فى لحظات التحول السياسى، وتتقدم بشجاعة فى اتجاه حل المشكلات العالقة فى الملف الدينى. تفاعل الأخوان المسلمون إيجابيا مع رحيل البابا شنودة باعتباره شأنا مصريا، وصمتت أصوات عن خطاباتها الاشتعالية المعتادة، فيما فشل آخرون فى استيعاب الموقف، واستسلموا إلى مشاعر التعصب التى رفض المواطنون المصريون أن تتلبس تفسيرات فقهية إسلامية، رأوا ــ بحق ــ أنها لا تعبر عن الإسلام الذى تربوا عليه، وعرفوه. هذه الاختبارات الإنسانية سوف تتكرر إلى أن تستقر فى النهاية على أرضية الوسطية الإسلامية، التى يعتز فيها المصريون بتراثهم الفقهى الرحب، رافضين أية تفسيرات فقهية «مستوردة» من سياقات ثقافية أخرى لا تعرف التجربة الحضارية المصرية. 

 

 

(3)

 

الرسالة الثالثة هى الرهان على «مؤسسة الكنيسة» فى المشاركة فى إعادة بناء المجتمع الجديد. الوعى الإيجابى الذى استقبل به المصريون جميعا، مسلمين ومسيحيين مبادرات مؤسسة الأزهر لبناء التوافق وتجاوز الخلاف، خاصة ما صدر عنها من وثيقة مهمة حول مستقبل مصر، يتجه الآن إلى الكنيسة بحثا عن دور مماثل، مكمل وشريك من منطلق المبادرة وليس اكتفاء بالتفاعل اللاحق مع الأحداث. يقتضى ذلك من القيادة الكنسية القادمة، وهى تتمتع بالتعاطف الشعبى قبل أن تتولى مقاليد الأمور، أن تستوعب الأشواق والتطلعات المصرية فى تعميق الانفتاح المسيحى على كل مكونات الثقافة المصرية بمختلف أطيافها، والتفاعل مع كل القوى والتيارات السياسية، وإطلاق الخطابات الثقافية التى تعمق اندماج المواطنين الأقباط فى الشأن العام، وتعزيز العلاقات الإسلامية المسيحية. لم يعد الانفتاح «اختياراً» لكن «فرض عين»، وتداعيات ثورة 25 يناير سوف تفرض شروطها. العلاقات المؤسسية بين الكنيسة القبطية والمؤسسات الإسلامية الرسمية كالأزهر والإفتاء والأوقاف، سوف تكتمل بانفتاح على القوى والتيارات ذات المرجعية الإسلامية، التى ترغب هى الأخرى فى الانفتاح على الأقباط انطلاقا من مبدأ المواطنة المتساوية. والعلاقات بين رأس الدولة ورأس الكنيسة القبطية لن تكون بمعزل عن التفاعل مع كل الأحزاب والتيارات السياسية والمنظمات المدنية والإعلام، ليس فقط من خلال «اللقاءات البروتوكولية» أو أحاديث الغرف المغلقة، ولكن عبر تفعيل مشاركة المواطن المسيحى، وبخاصة جيل الشباب فى المجتمع من خلال خطابات دينية تعزز الديمقراطية، المشاركة، المواطنة، العدالة الاجتماعية. هذه المهام التى يطلبها المجتمع، تضاف إلى مهام أخرى تتعلق بترتيب البيت المسيحى من الداخلى، سوف تحتاج إلى «مؤسسية» تواكب الانتشار الأفقى (التوسع الكمى فى جميع قارات العالم)، والرأسى (العمل فى قضايا اجتماعية واقتصادية وثقافية). البناء المؤسسى ظل لنحو أربعة عقود مستوعبا فى شخص «البابا الكاريزما»، الآن يتطلب التحول فى المجتمع إدراكا مختلفا، وقدرة على تفعيل الطاقات، والإفادة من القدرات المتاحة. رحل البابا شنودة تاركا الشأن الكنسى «عاما» بمعنى من المعانى، ليس من منطلق التفتيش فى شئونه الداخلية لبث الفرقة على النحو الذى احترفه نظام مبارك وإعلامه وأمنه، ولكن من خلال التأكيد على إسهامه فى الشأن الوطنى العام.  

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved