حلاوة اللدو

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 24 مارس 2019 - 12:00 ص بتوقيت القاهرة

مع محمد منير كل شيء مطروح لإعادة النظر. تقاسيم الليل لا تشبه النهار. اختياراته تؤكد في معظم الأحوال أن الشرق كتلة من العناصر مزجت بطريقة فجة. نستمع إلى أغنية طرحها في ألبوم له فلا نعرف على وجه الدقة من أي بلد أتت، رغم الاحتفاظ بخصوصيتها. يصبغها بروحه، روح ذلك الشاب الأسمر الذي ظهر في نهاية السبعينات، ذلك الأسمر الأقرب إلى النحافة، الذي يقف بنا في مكان بين الصحراء والنهر، مكان يحملنا على التفكير والتأمل أحيانا، ويعبر بنا كثيرا إلى ضفاف الحنين في السنوات الأخيرة.
أوتار العود والقانون تتشابك، تعبيرا عن كلمات الحنين في أغنية "أهل أول" التي أطلقها مؤخرا. ظننت في البداية أنها ربما إحدى أغنيات النوبة التراثية التي يعيد تقديمها أو أخرى جديدة تتحدث عن ذكريات طفولته، لكن بعض المفردات اللغوية تكشف بسرعة أننا لسنا بصدد النوبة ولا قبائل الجعافرة. توقفت عند قوله "وحشتني حلاوةُ اللدو والبركة اللي في يده"، وهو يصف عم شاكر في دكانه، بالفوطة وقميصه الشاش، ويتذكر حوا والصبي عبده وبعض "أهل أول" أو أهل زمان.
***
اللدو هذا صنف حلوى ينتشر بالأحرى في آسيا، كريات صغيرة مقلية من الدقيق والحمص والزعفران، محلاه بشراب السكر، وهي هندية الأصل وموجودة في دول الخليج وبنجلادش وأفغانستان وباكستان. وأغنية "أهل أول" تنتمي إلى التراث الموسيقي لمنطقة الحجاز، المعروفة ببساطة كلماتها مما يجعلها تجري بسهولة على الألسنة... عفوية تشبه أصوات الحارة الحجازية القديمة التي لا تحجز شبابيكها الخشبية ضجيج لعب الأولاد في الأزقة ونداء الباعة.
انطلقت من هذه المنطقة العديد من الأهازيج الشعبية، يصاحبها إيقاعات بسيطة أيضا. وبالتالي أغنية مثل "أهل أول" التي ينسب البعض كلماتها لعبد الله دبلول والبعض ينسبها للتراث ويشير إلى أنها غنيت بأكثر من طريقة في البحرين والسعودية، تجعلنا نعيش في مكان يبدو مألوفا، رغم أننا لا نعرفه، نتعرف على شجر الكادي ونكاد نشتم رائحته العطرة ونتعرف على الرجال الذين يبيعون الملابس في "بقشة قماش" ونشتاق بدورنا لحلاوة اللدو. وهذا هو سر منير، اختيارات تشبهه وإحساس يجعلها نابعة منه، حتى لو غناها قبله كثيرون، وهو ما رأيناه في أغنيات عدة أحبها فغناها وأحببناها معه.
لم نقارن بينه وبين شادية حين أعاد أغنيات لها مثل "آه يا أسمراني اللون"، بل شعرنا عندما غنى لحن منير مراد "يا حبيبي عد لي تاني" أنه الأقرب إليه من شادية لارتياحه في الأداء وتمرسه على السلم الخماسي، كذلك عندما أعاد توزيع "الدنيا ريشة في هوا" لسعد عبد الوهاب، صار لها طعما آخر، ولم نقارن البتة.
***
بعدما ثبت أقدامه خلال الثمانينات، استطاع أن يغني ما يريد بثقة في فترة التسعينات وما تلاها. صار ينقلنا معه من بلد إلى بلد، من موسيقى حوض النيل إلى الجزائر وتونس والأردن والحجاز، دون أن ندري، كأننا لم نغادر ضفاف النيل قط. هذه المرة أعاد تقديم "المجس" وهو فن الموال في الحجاز وتهامة، الذي يغنى من بيتين أو أربعة أو سبعة أبيات. ويقال إنه سمي بالمجس لأن المؤدي يجس به نبض المتلقين ويهيئ الجو، قبل أن يشرع في الغناء. وقد كان، جس منير النبض بتقديمه "أهل أول"، فشعرنا بصدق افتقدناه في كثير من أعماله منذ 2011 ، كان هناك شيء مفقود، وهو لم يستعد زهوته، لكنه وصلنا إلى حالة من التعاطف الشديد معه. وجعلنا نكتشف بعض من تميزوا بالأغنيات الحجازية مثل الشاعرة ثريا قابل والمغني السعودي فوزي محسون، وأعمالهما المشتركة على العود والقانون والسمسمية. جعلنا نتذوق حلاوة اللدو، ونمشي في أزقة لم نعد نفرق هي هنا أم هناك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved