رمضان في أربع عواصم

جورج فهمي
جورج فهمي

آخر تحديث: الجمعة 24 مارس 2023 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

يحتفل المسلمون فى أنحاء العالم بشهر رمضان المبارك، لكن إن كان للشهر المكانة والدلالة الدينية نفسها لدى المسلمين جميعهم، فإن مظاهر الاحتفال به تختلف من دولة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر. ومتابعة كيف يحتفل المسلمون بهذا الشهر الكريم تخبرنا الكثير عن العلاقة بين الدين والدولة فى المجتمعات المختلفة.
• • •
عشت شهر رمضان فى ثلاث مدن بالإضافة إلى مدينة القاهرة، وقد كان لرمضان طعم خاص ومختلف فى كلّ منها. تلك المدن هى فلورنسا وإسطنبول وبيروت.
كانت تجربتى الأولى مع شهر رمضان خارج مصر فى مدينة فلورنسا الإيطالية. أصرّت صديقتى الإنجليزية المسلمة على أن تدعونى وصديقى المصرى إلى الإفطار خلال عامى الأول للدراسة فى إيطاليا. قدّمت لنا شوربة خضار مخفوقة مع بعض الخبز، وانتظرنا بعدها أن تأتى بقية الأطباق كما اعتدنا فى ولائم الإفطار المصرية. إلا أن أطباقا أخرى لم تأتِ. وربما لاحظت صديقتنا نظراتنا المترقّبة، فحدّثتنا عن ضرورة أن يضبط الإنسان شهوة الطعام خلال شهر رمضان، وأن الرسول كان يفطر على القليل من الطعام. كان رمضان لصديقتنا الإنجليزية تجربة فردية بحتة قائمة على الحدّ من الإسراف فى الطعام والشراب. وربما لم يلحظ زملاؤها فى السكن أىّ تغيّر فى نمط حياتها. لم تتغيّر أى من عادات يومها، واكتفت فقط بتعديل مواعيد وجباتها اليومية مع الحدّ مما تأكله خلال تلك الوجبات.
أما تجربتى الثانية فكانت فى مدينة إسطنبول التركية. وتختلف تجربة رمضان فى إسطنبول عنها فى فلورنسا، حيث يشكل المسلمون أكثر من 99 فى المائة من سكان تركيا. ويمكنك بسهولة أن تلاحظ قدوم شهر رمضان، فتتزين المساجد بالأضواء التى تتمنى للجميع رمضانا مباركا، وتستعدّ بعض الأحياء ببرنامج دينى وثقافى خلال الشهر الكريم، كما تقوم بعض البلديات بتنظيم موائد الإفطار. وهو الأمر الذى ربما يحمل بعض أجواء شهر رمضان المصرية، لكن ثمة أيضا اختلافات لا تخطؤها العين. فأغلب مطاعم إسطنبول تبقى مفتوحة خلال شهر رمضان، حيث تستطيع بسهولة أن تذهب لتناول الغداء من دون أن تضطر إلى الإحساس بالخجل، ومن دون أن يسعى صاحب المطعم أن يغلق نوافذ مطعمه كما يحدث فى بعض المطاعم المصرية، بل وتقدم المطاعم التركية الخمور بشكل عادى. ولا ينظر المتدينون الأتراك إلى هذا الأمر بشكل من الإهانة لهم أو لصيامهم. وبينما يختار الكثير من الأتراك أن يصوموا، لا يطالبون المجتمع ولا الدولة بتغيير قواعدهما خلال شهر رمضان. اتفقنا أنا وصديق تركى على أن نفطر معا خلال شهر رمضان، لكنه طلب منى أن يتأخر لقاؤنا قليلا لأن لديه محاضرة فى الجامعة. وعندما التقينا سألته عما إذا كان يشعر بالضيق أن يكون فى المحاضرة وقت الإفطار، فأجابنى بالقطع لا. فلا يجب أن يتغيّر أى من سلوك يومك خلال شهر رمضان، وإلا فما فائدة الصيام إذا كنت قد غيّرت روتين يومك ليتوافق معه. تجربة رمضان فى إسطنبول تحكمها مبادئ الفصل بين الدين والدولة. فالمجتمع فى أغلبه متديّن ومحافظ، إلا أن الدولة تحافظ على علمانيتها، فلا تغيّر أيّا من قواعدها خلال شهر رمضان، بما فى ذلك أمر بسيط كمواعيد المحاضرات أو قواعد عمل المطاعم.
ويجىء رمضان فى لبنان ليقدّم لك صورة مختلفة عن الصورتين السابقتين، فيختلف من مدينة إلى مدينة، وداخل كل مدينة من حى إلى حى. تنقسم بيروت إلى أحياء طبقا للمذهب الدينى، كالأشرفية للمسيحيين، وراس بيروت للسنّة، والضاحية الجنوبية للشيعة، وإن حافظت بعض المناطق على قدر من التنوع مثل منطقة الحمراء. فطبقا للحى الذى تقطن فيه، يكون رمضانك. فى الأحياء المسيحية كالأشرفية لن ترى أى مظهر من مظاهر رمضان، أما فى الأحياء التى يدين أغلب قاطنيها بالإسلام، فربما تلاحظ بعض التغيير حيث تغلق بعض محلات الطعام أبوابها خلال نهار رمضان، وقد ترى بوضوح أعدادا كبيرة من الناس تقصد المطاعم لتناول الطعام خلال وقت الإفطار. تتشابه بيروت مع إسطنبول فى قدر التسامح بين مَن اختار الصوم ومَن لم يلتزم به، ولكن لأسباب مختلفة. فبينما حافظت علمانية الدولة التركية على تلك المساحة من التسامح، تجعل الطبيعة الديمغرافية للبنان ذى الطوائف الدينية المختلفة من الصعب على أى طرف أن يسعى إلى فرض نمط حياته فى رمضان على الآخرين. وهكذا تجد كورنيش بيروت مليئا بأشخاص يأكلون ويشربون من دون أن يسعى أحد إلى التدخل فى شأن الآخرين. عموما، سمح هذا التوازن الديمغرافى بين المسلمين والمسيحيين فى لبنان بقدرٍ من الحرية، حتى وإن كان عن غير قصد.
أما فى مصر، فإن عبارة أن رمضان فى مصر مختلف هى صحيحة تماما. وإذا أردت أن تصف لشخص أجنبى أجواء رمضان فى القاهرة، فيمكن أن تخبره ببساطة أن الكريسماس ممتد لشهر كامل. تجربة رمضان فى مصر ليست تجربة دينية فردية فحسب، بل هى تجربة دينية واجتماعية جماعية يشارك فيها جميع المصريين بصرف النظر عن معتقداتهم، سواء أكانوا ملتزمين بالصيام أم لم يكونوا. فالجميع، مسلمون ومسيحيون، ينخرط فى شراء المأكولات والمشروبات الرمضانية. كما أن رمضان هو شهر الحياة الاجتماعية بامتياز، من الإفطار الجماعى لأصدقاء المدرسة، وصولا إلى أصدقاء الجامعة والعمل. إنه فرصة اللقاء للعائلة والأصدقاء على موائد الإفطار. تخبرك تجربة رمضان فى مصر عن طبيعة المجتمع والعلاقة بين جماعاته الدينية، فلا أحياء مسيحية ومسلمة فى القاهرة كما هو حال بيروت، بل رمضان فى الأحياء كلّها، والجميع يشارك فى الاحتفال به. إنها أجواء الكريسماس نفسها التى يحتفل بها الجميع فى الغرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية ومدى التزامهم بها.
لكن على الرغم من جمال تجربة رمضان فى مصر على مستوى المجتمع، تشير هذه التجربة فى الوقت نفسه إلى علاقة الدولة المصرية بالدين منذ عهد محمد على وحتى يومنا هذا. فلم تكن مصر دولة دينية، ولا استطاعت أن تكون دولة علمانية. ويظهر هذا الأمر فى شهر رمضان بشكل واضح. لا تعرف مصر قوانين تمنع الإجهار بالإفطار فى نهار مضان كما حال بعض الدول العربية، ولا هى تبقى محايدة من دون تغيير لقواعدها خلال هذا الشهر، كما هو حال دول علمانية كتركيا مثلا. لكن الدولة المصرية تقف بين المجموعتين، فتتخذ إجراءات أقل حدة. تمنع مصر على سبيل المثال بيع المشروبات الكحولية للمصريين خلال شهر رمضان، وقد شهدت فى السابق حملات لإغلاق المقاهى التى تعمل فى نهار رمضان، وكذلك بعض حالات القبض على مَن جاهروا بالإفطار، وإن ظلت قليلة ومحدودة.
• • •
تجربة شهر رمضان الدينية تظل واحدة فى كل المدن السابقة لمَن يريد أن يكون هذا الشهر فرصة للتقرب من الله، لكن مظاهر شهر رمضان الاجتماعية تختلف وفقا لطبيعة كل مجتمع، والعلاقة بين جماعاته الدينية المختلفة، وشكل علاقة الدولة بالدين. وتظل تجربة رمضان الاجتماعية فى القاهرة هى الأكثر متعة من دون أى شك، ولا يدرك الإنسان مدى تفرّدها إلا عندما يقضى هذا الشهر خارج مصر. فكل رمضان وجميع المصريين بخير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved