مُقايَضَة

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 24 أبريل 2020 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

زَعق الرجلُ في الشابة صغيرة السِّن: "مش عايز يا ستي بونبوني أنا دفعت لك فلوس ترجعي لي فلوس مش هاخد حاجة تانية". أُسقِط في يدِّ الشابة وهي تحاول امتصاص غَضبَ الرجُل إلى أن تدخَّل واحد مِن الزبائن؛ فأعطاها عِدة قِطع مَعدنية ردَّتها إلى الرجُل الساخط لينصرف مُنتصرًا، ولاعنًا سوء خُلُق التُّجار في آن، فيما انقسم الواقفون بانتظار أدوارهم ما بين مؤيد للثورة التي انطفأت لتوها، وبين مُعارِض لغَضبٍ لم يكُن في مَحلِّه. هناك مَن رأى في إصرار الرجل بطولةً، ومَن لم يجد له مُبررًا ولا ضرورة.
***
العُملَةُ هي السُّلطة التي تُيسِّر تفاصيلَ الحياة اليومية مهما بدت تافهةً ضئيلةً وتُسيِّرها بصورةٍ طبيعية؛ لكنها في بعضِ الأحوال تُمَثل أزمةً ومُعضِلة. مرَّاتٌ لا حَصر لها يطلب البائع "فكة"، وأحيانًا ما يرفُض البيعَ إذا لم تكُن لدى الزبون أوراقٌ نقديةٌ ذات فِئة صغيرة أو عُملات مَعدنية تفي بالغرض. لم يكُن الأمر دومًا على هذا المنوال؛ فثمَّة طُرُق أخرى اتبعها الناسُ في الأزمنة الغابرةِ لتوفير المُراد.
***
نظامُ المُقايَضة قديمٌ قِدَم نشأة المُجتمعات البشَريَّة؛ فيه يتبادل طرفان بالتراضي ما بحوزتيهما، فيسدُّ كلٌّ مِنهما حاجةً لديه ويتخلَّص مما لم يعُد يُريد. مع اتساع العمرانِ ونمُو المُجتمعات البسيطة وازدياد أعدادِ السكان؛ تخَلَّقت أنظمةُ مختلفة بقواعدها وضوابطها الحاكمة، وحلَّت العُملة مَحلَّ المُبادلات العينية، وصارت لها القوة والسيادة؛ مَن لا يملك العُملةَ المُتوافَق عليها لا يُمكنه الحصول على مُبتغاه، ولو امتلك متاعًا أعلى قيمة وأعظم شأنًا.
***
في سلاسِل الأسواق التجارية الشهيرة، يضع المسؤولون عُلب البسكويت ومُغلَّفات النعناع وما شابهها عند خزائن المُحاسبة؛ تتراوح قيمة القطعة كما هو مُعتاد بين جنيه واحد ونصف الجنيه، يحصل الزبون عليها كباق ما غابت العملات الصغيرة وربما دون غيابها أيضًا. في أغلب مَحال البقالة، يكون الباقي في صورة عَلكة، أما في زَمنٍ أبعد بقليل؛ فعُلبة كبريت، وعند بائعي الخضروات؛ حبات الليمون وحِزَم البقدونس والجرجير. تختلفُ الحالُ قليلًا لدى بعض مَحال الحلويات الكُبرى؛ فتكون قِطَع الشوكولاتة المُهندمة عوضًا مُغريًا ولائقًا.
***
اعتدت أن أرفضَ العَلكةَ ما وضعها البائعون في يدي مع بقية النقود. أطلب أي مُنتَج آخر له القيمة ذاتها. يتعذَّر في بعضِ الأوقات تحقيقُ مأربي؛ فأضطر صاغرةً للقبول بها، وفي أوقات أخرى أضيف جنيهات لأحصلَ على بضاعةٍ يُمكن استخدامها.
***
حَصُلت مُؤخرًا على مُكعَّب مَرق دجاج كبقية لما دفعت بدلًا مِن الكبريت والملبِّس والعَلَكة. منعني شرودٌ طارئ مِن الاعتذار عن قبوله وطَلَب مُنتَج آخر، كذلك منعتني المفاجأةُ؛ إذ هي المرة الأولى التي أنال فيها مَرقًا. خرجت بالمُكعَّب دون كلمة واحدة، ودخلت عند بائع الفاكهة والخضروات، أعطيته مُقابل ما طَلبت، وأكمَلت بمُكعَّب المَرق في تلقائية، فتناوله ضاحكًا: "إيه ده؟!" ولم يعترض.
***
لا أتصور بالطَّبع أن يتحلَّى البائعون جميعُهم بروح الدُعابة والمَرح؛ فيقبلون قاروصة كبريت ثمنًا لكيلو بطاطس أو زجاجةَ زيت زائدة عن الحاجة مُقابِل عبوات الأرز أو السُكَّر، لكن فكرة المُقايضة المُجرَّدة مِن العوائق؛ تبدو ذات وجاهة وطرافة. كثيرةٌ هي الأشياء الزائدة عن احتياجات البُيوت؛ لا عن تَرف وحسب، بل عن سوء إدارة في عديد الأحيان، وعن تغيُّر الظروف والتوَقُّعات أحيان أخرى، وفي الآونة الأخيرة عن ضَعف التركيز وقِلَّة الانتباه وتشابُه الأيامِ والأشياء. تتراكم أغراضٌ لن يتأتى استخدامُها في وقت صلاحيَّتها، فيما تشحُّ ضروراتٌ لا بُد مِن وجودها.
***
تضع مَواقِع البيع والشِّراء التي لا تلجأ للتاجر كوسيط؛ اختيارَ المُقايَضة أو البَدَل. يُمكن لأي مُستخدِم أن يطلبَ مُبادلة ما في حوزته بآخر؛ ربما أكثر حداثة وتقدمًا أو أكبر حجمًا أو له لون مُختلِف وصفاتٍ مُغايِرة. لا أعرف إن كان هذا الاختيار يُحقِّق نجاحًا على أرضِ الواقع، أو إن كانت نسبةٌ مُعتبرة مِن المُستخدمين تلجأ إليه، لكنه على أي حال اختيارٌ قائم، لم يَجرِ إلى الآن حذفُه أو استبعاده مِن القائمة اكتفاءً بالمقابل النقدي.
***
فكرت جديًا أن أكرر الأمرَ بين الحين والحين في الأماكن التي أتردَّد عليها؛ فأعيد استخدامَ ما يُعطَى لي عنوةً مِن مُنتجات؛ وإذا كان من حَقِّ البائع هنا أو هناك أن يردَّ بقيةَ ما يدين به مِن نقود في صورة بضاعةٍ عينية، يكون مِن حقِّ الزبون بدوره أن يفعلَ المِثلَ؛ فيؤدي ثمن ما اشترى مؤلفًا من النقد والبضائع شريطة سلامتها. بعضُ المسلمات تُمكِن مراجعتُها وبعضُ الثوابتِ من الوارد خلخلتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved