أصوات الجسد

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 24 أبريل 2021 - 9:32 م بتوقيت القاهرة

كلنا مررنا بتلك التجربة على ما أظن، عندما نضع رؤوسنا على الوسادة ونخلو بأنفسنا لنستمع لأصواتنا الداخلية. نكتشف أنه لا يوجد صمت مطبق، وأن الغياب التام للصوت فى حضور أذن لاقطة غير وارد، فمن النادر ألا يصدر عضو من أعضاء الجسم صوتا معينا. قد يباغتنا هذا الصوت أو ذاك عندما نمدد أجسادنا على سرير فحص طبى ويصلها المتخصصون بجهاز الأشعة، فتبث موجات لا نراها بالعين لكنها تضيف لحدود معرفتنا. يترك الطبيب أحيانا مجالا لأن نتعرف على أصوات ضربات القلب ومدى انتظامها أو لأن نركز على نشاط عُقيدات صغيرة بالغدة تنبض بالحياة، يأتينا صوت الأعضاء مضخما بواسطة الجهاز ونتفاجأ بحجم الرياح والعواصف التى قد تهب من الداخل، فعادةً خلال حياتنا اليومية لا تتسنى لنا هذه الفرصة المدهشة تحت وطأة الضجيج بأنواعه.
***

عالم كامل من الأنابيب والقنوات والخلايا والأنسجة يتحرك بشكل دائم ومستمر، له موسيقاه وإيقاعاته الخاصة، ويشبه قصور التيه التى تختبر مهارتنا فى حل معضلات الحياة. وحين تتاح لنا الفرصة لمراقبة حركة هذا العالم الذى يموج بالموسيقى الداخلية نشعر أننا أكثر اتصالا بذواتنا. هناك أصوات مألوفة أكثر بالنسبة لنا تصدر عن الجسد مثل العطس والشخير والتجشؤ: يدخل جسم غريب إلى الجيوب الأنفية فنعطس، أو نبتلع الهواء أثناء الأكل والشرب فنتجشأ، أو يزداد وزن أحدنا وتتراخى عضلات البلعوم خلال النوم فيكون الشخير الذى يؤرق الشريك.
وهناك أيضا بعض الأصوات المزعجة والمحرجة أحيانا التى تأتى من القناة الهضمية، نسمع أصوات البطن أو قرقرة المعدة ربما بسبب التوتر أو الجوع الشديد، وكأن أجسامنا تعطى إنذارا مفاده أنها بحاجة إلى طعام وأن الأمعاء تقوم بعملية تمشيط وتنظف كل البقايا والسوائل. وأحيانا تباغتنا طقطقة المفاصل التى قد تشى بأن ثمة مشكلة تحتاج إلى جلسات علاج طبيعى أو ممارسة الرياضة وتجنب الجلوس لفترات طويلة. وفى أوقات أخرى ينبهنا من ينام إلى جوارنا أننا نَجِز على أسناننا فيكون الصرير أو طحن الأسنان الذى يعنى أننا بحاجة إلى الاسترخاء والتخلص من التوتر العصبى.

***
عدد كبير من الكلمات الموجودة فى اللغة تعبر عن أصوات يتسبب فيها الجسد، من همهمة لرنين وارتطام وصفير وقعقعة، وكأن بداخلنا عالما يحاكى أصوات الطبيعة فنسمع ما يشبه تتابع الرعد والشيء اليابس حين يتحرك وهرير الريح، إلى ما غير ذلك. وتكمن مهارة الطبيب فى حسن الإنصات إلى كل هذه الأصوات وتفسير ما تقوله، خاصة إذا ما حدث أى عطب أو خلل فى هذه المنظومة الموسيقية الدقيقة، يساعده فى ذلك سماعة بسيطة اخترعها الفرنسى رينيه لينيك فى أوائل القرن التاسع عشر، أى خلال القرن نفسه الذى توصل فيه العالِم الإنجليزى فرانسيس جالتون إلى الاستخدامات المختلفة للموجات فوق الصوتية، وتم تطبيقها بدايةً فى المجال العسكرى ثم امتدت إلى مجالات مختلفة بما فيها الفحوصات الطبية. ولكن ظلت السماعة التقليدية هى رمز الطبيب حتى فى ظل التطور العلمى الهائل، ورغم بعض الآراء التى تؤكد أنها ستختفى مع الوقت ليحل محلها أجهزة أشعة صغيرة، ربما بحجم الهاتف، يحملها الأطباء الشباب للكشف عن المستور، ينفى آخرون ذلك مفضلين الاستعانة دوما وقبل كل شيء بأداتهم التقليدية.
***
يقترب الحكيم من جسد المريض، يضغط فى أماكن معينة وينتظر الصدى أو ردة الفعل. من المفترض أن يجيد فن الإنصات. قد يتعامل مع بعض الأصوات العالية على أنها بمثابة إعلان حرب، مثلما فعل القدماء. يقرع طبوله هو الآخر ويتأهب للقتال. يراقب التتابع بين الصخب والهدوء، يلمس الجسد الذى عانى كثيرا فى الآونة الأخيرة ويَبِسَ بسبب أزمة الكورونا. جسد يحتاج إلى إعادة تأهيل بعد الفترة الصعبة التى نعيشها، يرغب فى أن يعود ليحلق فى فضاءاته السابقة وأن يتفاعل مع المحيط ويرجع إلى طبيعته الحرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved