عزوف القطاع الخاص عن الاستثمار فى مصر.. بين الوهم والحقيقة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 24 أبريل 2022 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

تجتهد الحكومة فى البحث عن سبل لمواجهة آثار الأزمة الاقتصادية العالمية التى نجمت بداية عن انتشار جائحة كورونا ثم تضاعفت باندلاع الحرب الروسية الأوكرانية والتى أدت إلى ارتفاع فى أسعار الوقود والحبوب وانخفاض تدفق السياح الأوكرانيين والروس إلى مصر، وأحد اجتهادات الحكومة فى هذا المجال هو إعداد مشروع وثيقة تحدد مجالات ملكية الدولة فى قطاعات الاقتصاد المختلفة، على اعتبار أن مثل هذا التحديد، وهو مطلب للمؤسسات المالية الدولية وبعض الاقتصاديين المصريين، يمكن أن يكون سبيلا فعالا لتنشيط القطاع الخاص وتحفيزا للاستثمارات الأجنبية. ويدعى هذا المقال أن وجود مثل هذه الوثيقة هو بالفعل أمر مهم، ولكن من المشكوك فيه أن تكون هى الحل السحرى لمشكلة عزوف استثمارات القطاع الخاص فى مصر وانخفاض تدفقات رأس المال الأجنبى، بل ربما يؤدى التعويل على صدورها إلى الاستمرار فى تجاهل الأسباب الحقيقية لهذه المشكلة، وابتعاد الاقتصاد المصرى، رغم معدلات النمو التى تتفاخر بها الحكومة، عن الانطلاق على طريق التحول الهيكلى المأمول فيه، والذى يخفف من الطابع الريعى للاقتصاد، ويمكن أن ينقله أخيرا إلى مسار الدول الصناعية الجديدة فى شرق آسيا خصوصا، والتى تكتفى حكومتنا بأن تطلب منها استثمارات، بدلا من أن تبذل جهودا جادة فى التعلم من تجربتها.
والدليل على أن صدور مثل هذه الوثيقة فى حد ذاته لن يضيف كثيرا هو أن دور القطاع الخاص قد اتسع فى مصر بالفعل منذ منتصف السبعينيات، وفى أعقاب اعتماد الحكومة لسياسة الانفتاح الاقتصادى فى سنة ١٩٧٤، وانطلق بمعدلات أسرع فى تسعينيات القرن الماضى بعد إقرار اتفاق التثبيت والتحول الهيكلى مع صندوق النقد الدولى فى ١٩٩١، وتولى شخصيات معروفة بحماسها للقطاع الخاص مسئولية صنع السياسة الاقتصادية فى مصر داخل الحكومة وفى لجنة السياسات بالحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم فى ذلك الوقت، وهكذا أصبحت شركات القطاع الخاص الكبرى والشركات الأجنبية متواجدة بقوة فى كافة فروع الاقتصاد من البنوك وشركات التأمين والصناعات الاستراتيجية مثل الحديد والصلب وخطوط الطيران والنقل البحرى والبرى والاتصالات والتشييد والخدمات الصحية والتعليمية على كافة المستويات والتجارة الداخلية والخارجية، فضلا عن استمرار التواجد فى قطاع الزراعة، ولا يكاد يوجد فرع للاقتصاد لا يتواجد فيه القطاع الخاص، وحتى المجالات التى كان يستبعد أن يدخلها القطاع الخاص سمحت الحكومة له بالتواجد فيها أو هى بطريقها لعمل ذلك، مثلما هو الحال فى أنشطة استكشاف البترول، ونقل الطاقة، بل وحتى إدارة بعض خطوط السكك الحديدية. بل وفتحت هذه السياسة الباب أمام الشركات الأجنبية لدخول الاقتصاد المصرى بقوة إما مباشرة أو بالتحالف مع الشركات المصرية. وتشير أحدث التقديرات أن مساهمة القطاع الخاص فى توليد الناتج المحلى الإجمالى تتراوح بين ٦٨٪ و٧٢٪.
وهكذا إذا لم يكن إصدار مثل هذه الوثيقة التى تعدها الحكومة هو نقلة كيفية فى أوضاع القطاع الخاص، فما هى النصائح التى يمكن أن نقدمها لحكومتنا فى هذا السياق؟
يمكن القول إن هناك أربع إجابات محتملة على هذا السؤال حول عزوف القطاع الخاص عن ضخ استثمارات جديدة وكبيرة فى الاقتصاد المصرى، إجابة منها خاطئة تماما، وثلاث منها يمكن أن يكون لها أثر إيجابى. فمن الخطأ القول بأن الحل هو فى خروج الدولة من الاقتصاد وتركه تماما للقطاع الخاص والشركات الأجنبية، ولكن من الصحيح أن مساهمة القطاع الخاص يمكن أن تنطلق لو اتضحت معالم لما تريده الدولة من الاقتصاد، ولو حددنا ما هو المقصود بالدولة فى هذا الإطار، ولو انصب اهتمام الحكومة على كيفية القيام بدورها أكثر من إعلان حدود ملكيتها للأصول الإنتاجية.

الإجابة الخاطئة
سوف يكون خطأ بالغا أن يتصور البعض، على نحو ما يذهب بعض غلاة النيوليبراليين، أن الدولة يجب أن تترك الاقتصاد فقط للعاملين الاقتصاديين الذين ينشغلون بالإنتاج وتقديم الخدمات. فليس هذا هو الحال فى الدول الرأسمالية، لا فى الماضى ولا فى الحاضر، بل وليست هذه نصيحة المؤسسات المالية الدولية التى تدافع عن الاقتصاد الرأسمالى بحكم الوثائق المؤسسة لها وبحكم توزيع النفوذ داخلها. فبالإضافة إلى تحديد حقوق وواجبات أطراف العملية الإنتاجية من أرباب عمل وعمال وموظفين وملاك للأراضى من خلال قوانينها، فالدولة هى التى تصدر النقود، وهى التى تؤثر من خلال نشاط البنك المركزى المملوك لها فى المؤشرات الكلية للاقتصاد توسعا أو انكماشا، كما أنها كانت تدير أنشطة إنتاجية وخدمية. بعض الصناعات الكبرى كانت مملوكة للدولة فى البلاد الرأسمالية حتى بداية ثمانينيات القرن الماضى، ولا تزال السكك الحديدية تملكها مؤسسات حكومية باستثناء الولايات المتحدة وبريطانيا مؤخرا، وقد أثبتت جائحة كورونا الفضل الكبير للخدمات الصحية الحكومية فى مواجهة هذه الكارثة. بل ويذهب البنك الدولى إلى أن دور الدولة يجب أن يشمل فضلا عن التحكم فى المؤشرات الكلية للاقتصاد من خلال السياسات المالية والنقدية، مواجهة الأزمات الاقتصادية، ومكافحة الفقر، وحماية البيئة وتحمل مسئولية المبادرة بالأنشطة الرائدة التى قد لا يجرؤ القطاع الخاص على الاقتراب منها.
وعلى الرغم من أن معالم الوثيقة التى تعدها الحكومة حول حدود ملكية الدولة لم تتضح بعد، إلا أنه سوف يكون خطأ الانسياق وراء هذه الدعاوى وذلك بالاستمرار فى تصفية ما بقى من القطاع العام بدون تدبر الأساليب المناسبة لتقليل خسائر بعض شركاته، ومواصلة تقرير مثل هذه الأمور على أساس معايير الربح والخسارة فى القطاع الخاص. خبراء التخطيط يعرفون معايير أسعار الظل، والتى تقتضى أن تكون المحاسبة فى الشركات المملوكة للدولة على أساس ما تحققه من وفورات للاقتصاد القومى بصفة عامة، وليس على أساس حساب الربحية الخاصة بها. ولذلك فربما يدرك المسئولون عن قطاع الأعمال العام الضرر الذى ألحقوه بالاقتصاد الوطنى بتصفية شركة الحديد والصلب دون البحث الجاد فى بدائل إصلاحها. وقد أظهرت تبعات أزمة الحرب الروسية الأوكرانية من ارتفاع أسعار الحديد فى العالم، والذى كانت أوكرانيا من كبار مصدريه، أن استمرار هذه الصناعة فى مصر كان سيوفر على الاقتصاد المصرى النفقات الكبيرة الإضافية التى ترتبت على هذه الحرب.
وفضلا على أن المؤسسات المالية الدولية ذاتها لا تدعو إلى انسحاب الدولة من الاقتصاد على هذا النحو، فإن تجربة الدول الآسيوية التى نجحت فى الانطلاق على طريق التصنيع، من اليابان إلى كوريا الجنوبية والصين، تؤكد على أهمية امتلاك الدولة للبنوك لتوفير التمويل للصناعات الناشئة، بل وحتى امتلاك الصناعات الجديدة فى مراحل التصنيع الأولى بإقامة الدولة لها، ثم نقل ملكيتها للقطاع الخاص بعد أن تقطع الدولة مسارا طويلا وناجحا على مسار التنمية. وما زالت الصناعات الكبرى فى الصين فى الوقت الحاضر تعول كثيرا على التمويل الذى تحصل عليه من البنوك المملوكة للدولة، والتى تحملت مديونيتها الكبيرة، ولكن مكنتها أيضا من أن تغزو أسواق العالم، وأن تنقل الصين إلى مكانة فى الاقتصاد العالمى تنافس فيها كبرى الدول الرأسمالية، وتقترب فى السنوات المقبلة من التربع على عرش الاقتصاد العالمى كأكبر اقتصاد فيه.

ماذا تقصد الدولة من الاقتصاد؟
ومع ذلك لا يكفى أن تكون الدولة حاضرة فى الاقتصاد من خلال مصارفها وفى مقدمتها البنك المركزى، ومن خلال المؤسسات المملوكة لها، ولكن سيكون من المفيد أن يعرف أرباب العمل فى القطاع الخاص على مستوياتهم المختلفة ما الذى تريده الدولة من الاقتصاد، فهم سيرسمون قراراتهم على أساس توقع ما تريد الدولة القيام به خلال فترة زمنية معقولة، فقد يكملون أنشطتها، أو يوجهون استثماراتهم إلى المجالات التى تتركها الدولة لهم والتى يعرفون أنها تتوافق مع سياساتها. كان الأمر معروفا فى الصين منذ نهاية سبعينيات القرن الماضى عندما أقرت استراتيجية التحديثات الأربع: العلم والتكنولوجيا والدفاع الوطنى والصناعة والزراعة، وهى الاستراتيجية التى ثابرت على ترجمتها إلى خطط تنمية خماسية واصلتها حتى نقلتها إلى ما هى عليه اليوم. نفس الأمر فى كوريا الجنوبية التى انتقلت من صناعة الملبوسات إلى الصناعات الكيماوية إلى الصلب وبناء السفن ثم غزو مجالات الإلكترونيات، وكان ذلك تكرارا للتجربة اليابانية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، والتى تعاونت فيها حكومتها مع التكتلات الاقتصادية الكبرى الخاصة المعروفة باسم زيباتسو. نحن لا نعرف ماذا تريده الدولة من الاقتصاد فى مصر على الرغم من وجود خطة يقال إنها تغطى السنوات المتبقية على نهاية هذا العقد، ولكن لا نعرف عن هذه الخطة سوى أنها تجميع لرغبات طيبة، ولكن مشروعات الدولة الكبرى بما فى ذلك إنشاء عاصمة إدارية غابت عنها، وحتى عندما يجرى تدارك ذلك فإنه لا يمكن القول إن إنشاء عاصمة جديدة للبلاد يمثل استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية على المدى الطويل. كما أن الاستراتيجية المقصودة ليست مجرد تجميع لمبادرات تقتضيها الظروف حتى ولو كانت ذات أهداف نبيلة، ولكنها رؤية كلية لحاجات الاقتصاد وطموحات المجتمع، وتقدير لحجم التمويل المطلوب وكيفية تغطيته من كافة المصادر.

ما هو المقصود بملكية الدولة؟
المشكلة الحقيقة فيما تريد الحكومة أن تفعله هو أن تقوم بتعريف كيانات الدولة الفاعلة فى المجال الاقتصادى. طبعا هناك الحكومة وجهازها التنفيذى والإدارى، وهناك شركات القطاع العام أو ما يسمى بقطاع الأعمال العام. ولكن الفاعلين الحكوميين الاقتصاديين لا يقتصرون على هذه الكيانات المدنية. هناك شركات القوات المسلحة، وهناك الدور المباشر للقوات المسلحة فى المجال الاقتصادى. ويمكن أن ينتهى تحديد دور الدولة فى الوثيقة المنشودة بأن يصبح فى واقع الأمر إطارا للنشاط الاقتصادى الذى تقوم به القوات المسلحة، والذى توسع كثيرا منذ سنة ٢٠١٣ على نحو يفوق كل ما كان مألوفا من قبل، بحيث. طبعا من حيث المبدأ من المفيد استفادة الاقتصاد من مهارات وقدرات خاصة تملكها القوات المسلحة فى مجال تشييد الطرق أو مكافحة الكوارث، ولكن هل من صالح الاقتصاد الوطنى تهميش القطاع العام المدنى أو القطاع الخاص عن القيام بالدور الأساسى فى إدارة النشاط الاقتصادى بما فى ذلك توليد الاستثمارات وخلق العمالة وإضافة فروع جديدة للاقتصاد؟ كل من شركات القطاع العام وشركات القطاع الخاص أثبتت قدرة على تنفيذ مشروعات طموحة داخل مصر وخارجها وفى مواجهة منافسة خارجية شرسة. وربما يكون السبب الأساسى لعزوف شركات القطاع الخاص عن توليد استثمارات كبرى جديدة هو المنافسة غير المتكافئة فى السوق.
التحديات التى يواجهها الأمن الوطنى لمصر وأمنها القومى هائلة، وسوف يستفيد الوطن كثيرا أن ينمو كل من القطاعين المدنيين العام والخاص فى المجالات المعتادة لكل منهما، وكما هو الحال فى الدول الرأسمالية، فإن تمويل القوات المسلحة يأتى من خلال نمو الاقتصاد الوطنى وما يوفره من إيرادات للدولة وليس من خلال قيام القوات المسلحة ذاتها بالنشاط الاقتصادى.
سوف تكون نقلة كبرى للاقتصاد الوطنى أن تعتبر الحكومة أن الدور الاقتصادى الواسع الذى قامت به القوات المسلحة ومعها أجهزة الشرطة فى السنوات الأخيرة أمرا طيبا اقتضته ظروف غير عادية مر بها الوطن، وأن الوقت قد حان لكى يتفرغ كل من القطاعين المدنيين العام والخاص والقوات المسلحة للمهام المألوفة لكل منها.

كيفية قيام الدولة بدورها
لا يتسع المجال لشرح هذه الإجابة، ولكن من الأمور المسلمة بين خبراء الاقتصاد أنه فيما يتعلق بدور الدولة فى الاقتصاد فإن النجاح فى أداء هذا الدور لا يتوقف على حدود ملكية الدولة للمرافق الإنتاجية والخدمية، ولكن على طريقة إدارة الدولة لهذه المرافق والاقتصاد بصفة عامة، هل تديره بأسلوب الأوامر؟ أم تديره بأسلوب التحفيز وبالالتزام بقواعد الحوكمة الرشيدة والتى تشمل التشاور مع أصحاب المصلحة والخبرة؟. هذا فى حد ذاته تحد هائل لحكومة تستسهل إعطاء الأوامر. ولكن لو شئنا مرحلة جديدة فى إدارة الاقتصاد، فلا مفر أمام الحكومة من أن تغير أسلوبها المتوارث منذ ظهرت الدولة المركزية فى مصر منذ قرابة ستة آلاف سنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved