لطائف دبلوماسية

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 24 أبريل 2025 - 7:10 م بتوقيت القاهرة

قدّمت لنا الدراما المصرية شخصية الدبلوماسى فى قالب شديد اللطف والطرافة، فبمجرد أن قرّرت أن أكتب هذا المقال قفزَت إلى ذهنى على الفور صورة فؤاد المهندس فى فيلم «جناب السفير». فى هذا الفيلم قام المهندس بدور الدوبلير لسفير جمهورية فيحان فى مصر -حتى يتيح لجهاز المخابرات أن يتعقّب المتآمرين على السفير والذين كانوا يريدون قتله والتخلّص منه. ارتدى فؤاد المهندس بدلة السفير المثقلة بالنياشين والأوسمة وراح يغنّى بدمه الشربات «جُدور رقبتى اتودّكت ع الإتيكيت.. تِلوح يمين تِلوح شمال لما اتهريت، غرقان لشوشتى فى الاحترام لما استويت»، يريد أن يصوّر لنا معاناة رجال الخارجية من البروتوكول ولا أقول من التكلّف أحيانًا، فأنا لا أقدر على زعل أصدقائى فى السلك الدبلوماسى. فكرة التآمر على السفير كانت قد وردَت قبل ذلك بعدّة سنوات فى فيلم «صاحب الجلالة»، عندما قام فريد شوقى بدور الدوبلير للسلطان مارينجوس الأول سلطان بورينجا الذى كان قد جاء فى زيارة سياحية لمصر فإذا بأعدائه السياسيين يعدّون العدّة للتخلّص منه أيضًا. أما السفير الإسرائيلى ديڤيد كوهين الذى جسّد شخصيته لطفى لبيب فى فيلم «السفارة فى العمارة» فإنه هو نفسه كان يتآمر على جاره شريف خيرى رمز الصمود ليستولى على شقته المجاورة لشقته تمامًا ويفتح الشقتين على بعض.
• • •
هذا التعامل السينمائى اللطيف مع شخصية الدبلوماسى مقبول جدًا، فالإبداع يتنفّس حريّة، وصحيح أن بعض الفن الرفيع يوجد فى ظلّ الأنظمة السلطوية، لكن هذا يمثّل الاستثناء، أما القاعدة فهى أن الفن ليُضحك ويسخَر وينقُد لابد أن يتحرّك فى مساحة من الحرية، ولابد أن يكون أمامه براح. لكن عالم الدبلوماسية يختلف عن ذلك تمامًا، لأن الدبلوماسية بطبيعتها فيها تحفّظ وجديّة وأقنعة وبروتوكول ومسافة وتدقيق وألقاب ومقامات وشوكة وسكينة وملابس رسمية. فى الدبلوماسية كل شىء بحساب، وبالتالى فإن علاقة الدبلوماسية بالكوميديا ليست طيبة ومن المؤكّد أنها ليست حميمة، نعم هناك دبلوماسيون أدباء لكنه الأدب الرصين، أما الأدب الساخر فمؤجّل لما بعد التقاعد. ولذلك نجد مثلًا أن شخصًا مثل العظيم سليمان نجيب عندما أراد أن يلتحق بالفن كان عليه أن يستقيل من السلك الدبلوماسى، على الرغم من أنه وصل إلى أن يكون قنصل مصر فى اسطنبول. أصلًا لم يكن من المعقول أن يظّل سليمان نجيب يعمل فى الخارجية ويقبل فى الوقت نفسه أن يسخر منه نجيب الريحانى فى فيلم «غزَل البنات» ويصفه بأنه ضليع فى قواعد الجرجير وأصول البقدونس والفجل الرومى. ولو لم يتقدّم باشا السينما المصرية باستقالته من السلك الدبلوماسى لكان قد أقيل قبل أن يضع قدمه داخل الاستوديو .
• • •
المقدّمة الطويلة السابقة عن العلاقة بين الكوميديا والدبلوماسية وكيف أنها علاقة تسير فى اتجاه واحد لا فى اتجاهين، الغرض منها التمهيد لدهشتى عندما قرأتُ المقال السياسى الذى كتبه الأمير عثمان فى صحيفة ورلد كرانش. فى هذا المقال انتقد عثمان الدبلوماسية المصرية لأنها تُميت بالبيروقراطية الشديدة كل المبادرات التى لا تخدم مصالح الدولة (وهل هناك دولة فى العالم تشجّع المبادرات التى تهدّد مصالحها؟)، وشبّه الكاتب هذه الدبلوماسية المصرية بدبلوماسية «مدام عفاف». ومدام عفاف التى تمارس عملها من مكتبها فى الدور الرابع- هى شخصية نسائية ابتكرها المصريون للسخرية من بطء الإجراءات البيروقراطية فى المؤسسات الحكومية. والذى أدهشنى أن المؤلّف استدعى شخصية فكاهية كنت أظن أنها غير معروفة إلا على المستوى المصرى، واعتبر أن أسلوبها فى العمل هو نفس أسلوب الدبلوماسية المصرية فى التسويف والمماطلة دون الاعتراض الصريح. وضرب المؤلّف عدة أمثلة على دبلوماسية مدام عفاف هذه، منها تعطيل مصر مبادرة الناتو العربى التى اقترحها ترامب فى دورته الأولى للاصطفاف فى وجه إيران/ الإرهاب (لا يدرى سعادته أن رفض الأحلاف العسكرية سياسة مصرية ثابتة من قبل أن تولد مدام عفاف). أما الجانب الإيجابى فى هذا المقال النقدى العجيب فهو أنه جعل رأس مدام عفاف برأس هنرى كيسنجر أبرز وزراء الخارجية الأمريكيين، بحيث أنه صار بالإمكان أن نتحدّث عن دبلوماسية مدام عفاف تمامًا كما نتحدّث عن دبلوماسية هنرى كيسنجر.
• • •
ومع ذلك فطالما أراد المؤلّف أن يصّك نوعًا جديدًا من الدبلوماسية مستوحىً من الكوميديا المصرية، فإننا نحبّ أن نضيف إلى معلوماته الفنية أن مدام عفاف ليست وحدها فى الميدان، فهناك أيضًا دبلوماسية مدام سنيّة الموظّفة بإدارة تسجيل الاختراعات الحديثة فى مسلسل «راجل وست ستات» والتى تقدّم لها أحد المواطنين باختراع الآنسر ماشين وكان اكتشافًا مذهلًا فى البداية. لكن فى ظل التعقيدات البيروقراطية لم يأتِ الدور على صاحب الاختراع رغم مرور سنين طويلة فقدَت خلالها الآنسر ماشين قيمتها. كما أن لدينا أيضًا دبلوماسية ذلك الموظّف المسئول فى مجمّع مديريات ومصالح محافظة الجيزة فى فيلم «كراكون فى الشارع» الذى لم يؤّشر بالموافقة على طلب أحد المواطنين للحصول على شقة من شقق المحافظة رغم مضّى ١٩ عامًا بالتمام والكمال على تاريخ الطلب، أحيل خلالها المواطن للتقاعد.
• • •
مع شعب مشهور بخفّة الظل كالشعب المصرى يسخر من أى شىء وكل شىء ويتهكّم حتى على نفسه لو لزم الأمر، يمكن لوزارات الخارجية فى كافة دول العالم أن تجد فى جعبة المصريين مادة فكاهية غزيرة جدًا تصلح للاقتباس منها واستلهامها فى وصف مختلَف المواقف والأدوات الدبلوماسية. نعم هذا ممكن لكن بشرط واحد هو أن تتوفّر الإرادة السياسية لجعل السلك الدبلوماسى مجالًا خفيف الظل وأكثر تحررًا من القواعد البروتوكولية، وحتى الآن يبدو أن السياق العام لا يسمح. وهنا أذكر كيف أن مذيعة مشهورة بإحدى الفضائيات العالمية قاطعَت الدبلوماسى الإسرائيلى الأسبق مائير كوهين عندما أراد الاستشهاد بموقف كوميدى للفنان عادل إمام وهو يتحدّث فى قضية سياسية صميمة، لكن قبل أن يكمل الضيف جملته التى قال فيها «على رأى عادل إمام …» نبهّته المذيعة بحسم إلى أن هذا لا يجوز… تقصد بذلك أن الدبلوماسية لا تعرف الهزار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved