حول تنظيم «الاقتصاد غير المنظم»!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الخميس 24 مايو 2018 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

ليس سرا أن الاقتصاد المصرى يئن من ازدواجية شديدة فى هيكله الإنتاجى، وبما يحد من قدراته على التراكم والنمو. فبنظرة موضوعية لمكونات هذا الهيكل، سنرى هذه الازدواجية فى أوضح صورها. إذ يمكننا أن نشاهد «اقتصادا منظما» تندرج تحت مظلته الأنشطة الرسمية للقطاع الحكومى وقطاع الأعمال العام والقطاع الخاص المقنن، ونستطيع أيضا أن نحدد ملامح «اقتصاد غير منظم» يجمع فى طياته أنشطة زراعية وصناعية وخدمية غير نظامية.

على أن جوهر المشكلة ليس فى وجود مثل هذه الازدواجية فى جسد الاقتصاد المصرى فى حد ذاتها، فهى أصبحت ظاهرة عالمية الطابع، وتعانى منها الدول المتقدمة مثلما تئن من وطأتها الدول النامية. لكن جوهر مشكلة الازدواجية فى الاقتصاد المصرى هو أنها لم تعد مجرد ظاهرة عرضية يمكن السيطرة عليها بإجراءات فى متناول السياسية الاقتصادية قصيرة الأجل، بل أخذت تلك الازدواجية تتمدد وتتعمق، شيئا فشيئا، حتى صارت الأنشطة غير المنظمة تزاحم الأنشطة المنظمة وتطغى عليها، وحتى أمست تلك الأنشطة غير المنظمة عصية على التنظيم!.
****

فى محاولة الحصر الدقيق للمظاهر غير النظامية فى الاقتصاد المصرى، أنفق العديد من الباحثين والمنظمات الدولية وقتا طويلا وجهدا مضنيا لتحقيق هذا الهدف العزيز. ومع ذلك، وبسبب التباين فى تعريف «الاقتصاد غير المنظم» أو «الاقتصاد غير الرسمى»، مازال الاقتصاد المصرى ــ شأنه شأن العديد من الدول الناميةــ لا يملك تشخيصا جامعا لهذه الظاهرة المرضية، ومازالت رؤى الباحثين تتباين فى تحديد أبعادها الكاملة. وللخروج من هذا المأزق التشخيصى، نعتقد أن هناك ثلاثة قطاعات رئيسية تكون فى مجموعها هيكل الاقتصاد غير المنظم فى مصر:

أولها هو القطاع الزراعى المكون من «المزارع الوحدوية» فى القرى والنجوع، والأنشطة الإنتاجية المرتبطة بها. فنتيجة للملكية «القزمية» للأراضى الخصبة، وبسبب تفتت الحيازات الزراعية، خرجت أغلب الأنشطة الزراعية فى وادى النيل عن التخطيط والتنظيم الزراعى الحكومى، وأصبح الإنتاج الزراعى يحدد بمبادرات فردية عشوائية من الأسر الزراعية المشتغلة فى هذه المزارع، وفقد الاقتصاد المصرى بعض من إمكانياته على النمو، كنتيجة لتراجع الإنتاجية الزراعية، وخسر النظام الضريبى حقوقه الضريبية من ناتج تلك المزارع. ولكل ذلك، يحق لنا أن ندرج هذه النوعية من الأنشطة الزراعية ضمن مكونات الاقتصاد غير المنظم.

ثانيها هو القطاع الصناعى العشوائى. ويتسع هذا القطاع بدوره ليشمل العديد من المكونات الفرعية، كالمصانع غير النظامية، أو ما يطلق عليها مصانع «بير السلم»، والورش الحرفية المتنوعة، ومراكز الصيانة غير المعتمدة. وللصناعة العشوائية المصرية سمات مشتقة من سمات الصناعة النظامية؛ فهى إما أنشطة تعتمد على الآلات والمكائن المتهالكة والملوثة للبيئة، والتى تنتج سلعا مليئة بالأضرار الجسيمة على الصحة العامة (لاحظ أن هناك علاقة قوية بين استهلاك منتجات تلك المصانع وبين انتشار الأمراض الخبيثة)، وإما أنشطة تنتشر جغرافيا بطريقة «سرطانية» فى جسد الأحياء الفقيرة فى أحزمة المدن الرئيسية. ويكفى هنا أن نضرب مثالا بسيطا على العشوائية الجغرافية للصناعات غير المنظمة فى الاقتصاد المصرى. فلو أنك ذهبت لإحدى البنايات السكنية فى ضواحى القاهرة، فلن تتعجب إذا وجدت أسفل هذه البناية مدبغا للجلود أو حتى مصنعا للصباغة والملابس الجاهزة!.

ثالثها هو قطاع الخدمات الهامشية فى الأسواق المتاخمة للأحياء السكنية. ولما كان قطاع الخدمات النظامية أصبح المكون الأول فى هيكل القطاعات الاقتصادية فى مصر، ومتفوقا فى حجمه على قطاع الصناعة المنظم، فلا عجب إذن، والحال هذه، أن تصبح الأنشطة الخدمية غير النظامية، هى الأخرى، أكبر مكونات الاقتصاد غير المنظم فى مصر. ويجول بذهنى الآن عدد كبير من الأنشطة الخدمية غير النظامية. فلتنظر مثلا إلى أنشطة تجارة الجملة والتجزئة غير المنظمة، وإلى مؤسسات البناء والتشييد غير المرخصة، وإلى وسائل النقل والمواصلات المملوكة للأفراد (يعتبر «التوكتوك» المنتشر كالسرطان فى الشوارع أوضح مثال). وانظر كذلك إلى أنشطة الخدمات التعليمية غير المرخصة (كالدروس الخصوصية)، وإلى العيادات الصحية العشوائية، وإلى أنشطة التمويل والإقراض والسمسرة وتجارة العملة غير المرخصة. أو فلتنظر إلى الكم الهائل من مقدمى الخدمات الشخصية والباعة الجائلون، والذين يجوبون الأسواق ويوظفون أنفسهم فى أنشطة لا تخضع للتنظيمات العامة. والنتيجة المنطقية التى يمكن أن تخرج بها من تعدد النظرات، هى أن الشواهد كثيرة على تفشى ظاهرة الاقتصاد غير المنظم فى قطاع الخدمات فى مصر.
***

إن نظرة إضافية فى تاريخ نشأة الاقتصاد غير المنظم فى مصر، وبداية انتشار الأنشطة الإنتاجية العشوائية، تفصح عن حقيقة مهمة؛ إذ يبدوا للوهلة الأولى أن هذه الظاهرة المرضية ليست ضيفا جديدا على الاقتصاد المصرى، بل هى ظاهرة تمد بجذورها فى أعماق تاريخ هذا الاقتصاد، ويرتبط تفاقمها بعوامل موضوعية يحملها هذا الاقتصاد فى جيناته. ويمكن أن نستخلص من هذا البعد التاريخى أن تراجع كفاءة وفاعلية التخطيط الاقتصادى لفترات طويلة، والتعارض الدائم بين السياسات الاقتصادية الكلية، واضطراب النظام الضريبى والتأمينى، وتراجع مقومات الشمول المالى، وتدهور القيم الثقافية فى المجتمع، وانتشار ثقافة «الفهلوة»، ونمو محفزات الفساد والبيروقراطية، كل ذلك ساهم فى نشوء وتفاقم الأنشطة الإنتاجية غير النظامية، وساعد فى اتساع رقعة الاقتصاد غير المنظم فى جسد الاقتصاد المصرى.

ومهما يكن من أمر مسببات هذه الظاهرة، وبالرغم من قدرة الاقتصاد غير المنظم على «التهدئة المؤقتة» لمشكلة البطالة، لطاقته العالية على استيعاب أفواج جديدة من الهائمين على وجوههم كل صباح بحثا عن عمل مشروع، وبما يجعله قطاع مزدحم بالعمالة، إلا أنه، كما أسلفنا، يترك أثارا سلبية عديدة فى جسد الاقتصاد الوطنى، ليس أقلها الخروج على القانون والنظام الاقتصادى العام!

على أن استفحال أنشطة الاقتصاد غير المنظم يفرض علينا أن نتساءل عن فرص الاقتصاد المصرى للخروج من هذه الظاهرة المرضية. غير أن هذا التساؤل ليس بأى حال تساؤلا بسيطا. لأن التراكم التاريخى للأنشطة غير المنظمة فى جسد الاقتصاد المصرى، وتشابكها مع باقى القطاعات المنظمة، وتكيفها داخل الأسواق المختلفة (وخصوصا سوق العمل)، يجعل إجراءات الخلاص منها محفوفة بالمخاطر الاقتصادية والاجتماعية، ويخلق معها مقاومة من أصحاب المصلحة فى استمرارها. ومع ذلك، لا بديل أمام الاقتصاد المصرى إلا الاجتهاد، بكل ما أوتى من أدوات، لمحاصرة وتنظيم الأنشطة الزراعية والصناعية والخدمية غير المنظمة. فكيف له ذلك؟

قد يتراءى للبعض أن المبادرات الطيبة التى يطلقها الرئيس فى مناسبات متعددة بهدف تحفيز وحدات الاقتصاد غير المنظم على الدخول الطوعى فى عالم الاقتصاد المنظم، ستكون كافية لمحاصرة هذه المشكلة، وخصوصا أنها، فى نظرهم، تتضمن حوافز وإعفاءات سخية للأنشطة غير النظامية. وبتسليمنا بأهمية مثل هذه المبادرات كخطوة أساسية للتصدى لظاهرة الاقتصاد غير المنظم، إلا أننا نعتقد أنها تمثل فقط نصف الحل المطلوب لها. فالحوافز التى تقدمهما الحكومة لوحدات الاقتصاد غير المنظم يمكن اعتبارها بمثابة «الإيجاب» فى العقود القانونية. ومن المعلوم أنه لكى تكتمل شروط العقد، فهو فى حاجة «للقبول» من الطرف الأخر، وهو فى حالتنا رواد الاقتصاد غير المنظم. ولذلك، فإن المعضلة الأساسية أمام الحكومة تتمثل فى الخطوات العملية التى يجب أن تقطعها لكى تضمن قبول رواد الأنشطة غير النظامية الاندماج فى الاقتصاد المنظم. وفى رأينا أن هناك ثلاث خطوات تراتبية:

الخطوة الأولى: أن تكف الحكومة عن النظر بعين واحدة لتلك الظاهرة، والمتمثلة فى «عين الجباية». وبمعنى أكثر وضوحا، ألا ينظر لتلك الأنشطة نظرة ضيقة على أنها مجرد موارد ضريبية وتأمينية مضاعة، وأن ينظر إليها فى إطار أوسع وأرحب، من خلال الدور التنموى الذى يمكن أن تلعبه حال ولوجها عالم الاقتصاد المنظم. والتحول فى النظرة الحكومية لهذه الأنشطة، وتوفير نظام ضريبى وتأمينى يراعى ظروفها وإمكانياتها، كفيل بأن يقلل «مقاومة التنظيم» المتوقعة منها، بما يخلقه من «مناخ تصالحى» بينها وبين الحكومة.

الخطوة الثانية: أن توفر الحكومة مظلة إدارية جامعة للأنشطة المستهدف تنظيمها، وبما يضمن الحماية القانونية والاجتماعية والتنظيمية للأنشطة حديثة التنظيم وللعاملين بها. وقد يكون من الملائم أن يتم التنسيق بين هذه المظلة وبين الأجهزة الحكومية المنوطة بالمشروعات الصغيرة. وعموما، فلكى تنجح هذه المظلة الإدارية، يجب أن تعرف وتحدد بدقة الأنشطة المستهدفة بالتنظيم، وأن تبسط من الإجراءات المطلوبة للتنظيم، وأن تقترب، قدر الإمكان، من التجمعات الجغرافية لهذه الأنشطة.

الخطوة الثالثة: أن تجتهد وحدات الحكومة المحلية فى خلق «حلول معمارية» مبتكرة، للدمج الحضارى لأماكن الأنشطة حديثة التنظيم، وبما يراعى طبيعة تلك الأنشطة، ودون أن يؤثر سلبيا على الطابع المعمارى للمدن المتكدسة بها. وفى هذه الخطوة، يمكن أن تخصم التكاليف الرأسمالية لإنشاء هذه «الحلول المعمارية» من الوعاء الضريبى الخاص بالأنشطة الداخلة حديثا لعالم الاقتصاد المنظم.
****

وعلى كل حال، تبقى الإشارة إلى أنه إذا كانت ظاهرة الاقتصاد غير المنظم بحجمها الراهن تمثل عبئا متفاقما على كاهل الاقتصاد المصرى، فإن هذا العبء مرشح أن يستمر فى التفاقم إذا تركت هذه الظاهرة دون مواجهة شاملة من السياسة الاقتصادية، وإذا اعتقدت هذه السياسة أن «الحوافز الضريبية» وحدها هى العلاج السحرى لهذا الداء العضال!

msyoseff@gmail.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved